من أهم المقامات المعنوية الخاصة نأخذ مقامين اثنين هما:
ـ مقام الوقفة
ـ ومقام الرؤيا.
وسنوضح، باختصار، الملامح العامة لهذين المقامين:
المقام الأول/ مقام الواقف والوقفة:
الواقف هو المنتظِر والمنتظَر داخل لحظة تكاملت في زمن الذات الإلهية و تهيأت وسكنت لتلقّي الخطاب الإلهي المطلق. والواقف هو ذلك الذي تسلق قمة سلّم التجريد، والذي تجرّد من التجرّد ذاته، فهو يدور في عوالم الغيب والشهادة بدون حجب أو أستار. ويحقق الواقف أعلى مراتب الفناء في سلم المقامات المعنوية عند أهل الطريق.
تجد أكثر المـفردات تجريداً لتسمية مقاماته المـعنويـة، فالـوقفة / الواقف كلمة مجردةالمراد بها ان يؤسس عليها معاني ومعارف خاصة. مسلوبة الإرادة، وخارجة عن كل ضدّانية وسوائية وغيرية، ولا تتستر بأي ستر ماديّاً كان أم معنوياً.
منشأ هذه الكلمة في اللغة لتحديد طارئ يطرأ على الحركة، وفي لغة أهل الفقه (الوقف) هو إيقاف هذا المُلك أو البناية … الخ إلى شخص أو مشروع ما، فلا يمكن التصرف به إلا بخصوص شروط الوقفية، وتبقى هذه الوقفية متواصلة إلا إذا تعارضت مع مصلحة عامة.
على كل حال، ما نريد الوصول له من خلال هذا التفسير اللغوي والاصطلاحي لهذه الكلمة [أوقفني] تبيان ان دلالة مقام الواقف تشير الى ان صاحب هذا المقام يصبح مُلكاً لله وحده لا غير، ظاهرياً وباطنياً ويطبق كل الشروط المتعلقة بتكامله داخل هذا المقام.
والوقوف حالة من حالات التواضع والأدب في مقام الواقف، ولا يصح لصاحب مقام الواقف أن يتلقى الخطاب الإلهي إلا في حالة الوقوف والاستعداد المعنويّ لتلقي هذا الخطاب. فالوقوف هنا وقوف معنوي، ومن ضمن أحوال هذا المقام الأدب التام مع الله، ومن أحواله أيضاً الإنصات والصمت، فلا يصح النطق عند الواقف وهو في دائرة الرؤيا التي تلازم الوقفة، والعكس بالعكس
[right]المقام الثاني/ مقام الرؤيا:
إن الرؤيا في معارف وخيال الصوفية والعارفين أهم المنافذ المجردة والذاتية للارتباط بالخطاب الإلهي ومشاهدة الحقائق المجردة والإلتقاء بالأسرار المعنوية، والرؤيا أعلى مراتب الكشف فهي تنزلات التجلي الإلهي على الفؤاد ليرى الحقيقة. كما هو وارد في القرآن الكريم: ﴿ ما كذب الفؤاد ما رأى ﴾ فمقام الرؤيا آخر أبواب مقام الواقف في سلم المعنى الذاتي الإلهي. ومفتاح الرؤيا اللحظة المطلقة بلا ذاكرة ولا عنوان ولا تسميات، فهي القدرة الذاتية والكمالية لاختراق كل شيء و سلب شيئيته، وإزاحة محجوبية كل الحجب والموانع والأستار، و إزاحة كل غيرية وسوائية عن ذاتها المستقلة، فمن خلال مقام الرؤيا يستطيع الواقف أن يرى كل شيء من وراء كل شيء، وأن يرى الحقيقة الإلهية من وراء كل الأشياء و الحجب، كما يقول في المواقف: [ وقال لي لا يكون المنتهى حتى تراني من وراء كل شيء ]. فالرؤيا آخر منتهى الوصول، ولكن أن ترى الحق من وراء كل الأشياء. وبوجود الأشياء يكون للرؤيا القدرة على شهود الحق في كل الوجود، ورؤية الوجود في وحدة شهود الحق. فالرؤيا تنزلات الذات الإلهية على سر الواقف وتجليات الحق على ذاته، ومن مساحات الرؤيا التي تتحقق فيها المشاهدة والكشف المعنوي، هو النوم. يقول في المواقف: [ وقال لي نَمْ لتراني فأنك تراني وأستيقظ لتراك فأنك لا تراني ]، فنوم الواقف هو الرؤيا المطلقة للحقيقة الإلهية، فالنوم هنا نوم معنوي تنكشف له الحقائق عن مكنونها و أسرارها وهي إزاحة معنوية لكل رقابة حسية أو مادية، وجدانية أو معنوية عن حقيقة الواقف فالنوم المعنوي يحقق هذا الفتح العظيم في رؤية الحقيقة الإلهية، واليقظة هي يقظة الأوهام في مسالك الوجود بحيث تتلاشى الذات الإلهية في حجب هذا الوجود دون أن يعلم المستيقظ بذلك، ظاناً أنه في يقظة أمام الحقيقة بينما هو في غيبوبة عن الحق، فالمستيقظ لا يرى إلا أشباح الحقائق وتنكشف للنائم من وراء الحجب أسرار الحقائق. ويكون الواقف صاحب الرؤية أعظم وأكبر من
العارف كما يقول: [وقال لي كل واقف عارف، وليس كل عارف واقف ].
ولأن معرفة العارف ملازمة لسرّ ذاته ولا تفارقه أبداً، فالعارف يبني قصوراً من المعرفة وينصب نفسه المَلِك على هذه المملكة الشاسعة ولا يستطيع أن يتخلى عن ملكه فقد أصبحت المعرفة حجابه الأكبر، كما يقول احد الصالحين: ( وقال لي: فأن العارف كالملك يبني قصوره من المعرفة فلا يريد أن يتخلى عنها) وتصبح المعرفة ناراً تأكل كل محبة، فالمحبة هي محور ذات الواقف وجوهر مقام الرؤيا، بالمحبة يخترق الواقف كل مدارات الحقائق ليصل إلى مكنون الحقيقة الإلهية. فمعرفة العارف تأكل كل محبة لأنها النار التي سُلّطت على وجدانه المحجوب [ و قال لي: المعرفة نار تأكل المحبة ].
وأما علوم الرؤيا التي تزيح عن الواقف غيرية الأشياء وسوائية الحجب هي أن تشهد الصمت الذي هو جوهر سرّ الواقف وقلمه الذي يدوّن به وقوفه، والصمت عند الواقف مَلَكة ذاتية [ و قال لي من علوم الرؤيا أن تشهد صمت الكل، ومن علوم الحجاب أن تشهد نطق الكل ].
فهذه الشهادة التي يراها صاحب الرؤيا هي استيلاء كماله على كل الأشياء فتشهد له بعمق الكل، وأما إزاحة ذاتية الحجاب فهي إشهاد وإنطاق الكل.
كما ذكرنا مراراً فإنه باختفاء ذاتية الأشياء واستقلالها عن المعنى الحق، ومحو ضدّانية التقابل وفعالية تأثير الأضداد على الإنسان، يستطيع الواقف أن يرى من وراء الضدّين رؤية واحدة، وهذه إشارة إلى عمق التوحيد في المشاهدة من وراء الأضداد رؤية واحدة حقّة [وقال لي من لم يرني من وراء الضدين رؤية واحدة ما رآني ]. وهذا التوحيد هو حقيقة التوازن الوجودي في جوهر شهود الحق في كل الأشياء، ولا بد أن تتحقق لصاحب الرؤيا، المعرفة التي يرى بها الحقيقة ولا يرى بديلاً عنها، وهذا هو الاختلاف بين معرفة الواقف ومعرفة العارف. فالواقف يستخدم المعرفة في الرؤيا لرؤية الحق. والعارف يرى في المعرفة، المعرفة ذاتها.
أهم سمات صاحب الرؤيا:
- إزاحة كل ذاتية مستقلة عن معنى ذات الحق، ورؤيته بلا وسائط.
- سلب كل محجوبية وشيئية عن ما هو دون الحق.
- تزيح الرؤيا ظاهرية الصور وشكلانية المعاني وتخلص الواقف من انطوائه تحت ثقل تسلّط التعيّنات الثابتة والمتغيرة.
- الرؤيا تحقق الوحدة الوجودية لشهود الحق.
- التثبت في الرؤيا وانصهار الحقائق الثابتة في ذات الواقف، هو سر اكتمال دائرة الرؤيا للحقيقة [ وقال لي: قف في مقامك بين يديّ، قف في رؤيتي وإلا اختطفك كل شيء].
- مركز الرؤيا في المدار الإنساني هي الروح. والروح والرؤيا من سنخ واحد، من أصل واحد: [ يا عبدُ، الروح والرؤيا إلفان مؤتلفان]. فالروح هي السريان الحق لذات الإنسان، والقيمة الكمالية لفعالية الرؤيا. والرؤيا المعراج الوصولي لحمل الروح على المشاهدة.
7ـ الرؤيا لا يتخللها الحجاب ولا تتحول إلى حجاب أبداً، فهي مقام نوراني لأنها من أصل الحقيقة الإلهية بلا وسائط.
8ـ الرؤيا هي أهم العوالم و أعظم المراتب لأنها جوهر ذاتي يلامس الذات الإلهية [ يا عبدُ، لو علمتك ما في الرؤيا لحزنت على دخول الجنة].
الرؤيا تحقق للإنسان الواقف عبور كل الأشياء واجتياز كل المسافات المعنوية والمادية و تلوح له الأشياء ظاهرة في بواطنها وكاشفة عن حقائقها وواضحة في معانيها، يقول النفري: [أنت عابر كل شيء فجزت فرأيت كل شيء، ورأيت وجه كل شيء، ومعنى كل شيء ].
وفي الختام لايسعنا الا ان نقول عنهم انهم أهلُ اللهِ الذينَ لا يستظلونَ بظلٍ و لا ينتسبونَ إلى التسمياتِ، أسسوا للمسلمينَ بشكلٍ خاصٍ وللبشرية بشكلٍ عامٍ مشروعاً خصباً و تركوا تراثاً انسانياً صافياً وعميقاً، فأهلُ هذا الطريقِ أفتتنوا بالِله إفتتاناً أفقدهمْ كلَّ شيءِ، وأحبوهُ حباً لا متناهياً وهاموا في عشقهِ، ينحتونَ بوجودِهم أسماءَهُ و يرسمونَ بدمائهمْ خرائطَ الوصولِ اليهِ، سكنوا الصحارى و الجبالَ وغاصوا في الوديانِ وركبوا البحارَ واتخذوا من الهجرةِ بيتاً ومن الغربةِ زاداً، فماذا يمكنُ أن نقولَ عن أسفارهمْ. تلك الأسفارُ التي أكثرُها تعقيداً على أرضِ البساطةِ، وأكثرُها بساطةً على أرضِ التعقيدِ في البحث عن مكنون البساطة وهو الله ..الله بسيط الحقيقة، وعن الفناء في هذا المعنى الإلهي. لهذا حملوا قلوبهم مناجلَ للتجريد والغوص الى أعماق الوجود بلذة الاختراق و فضول ألم الاستطلاع، لاستخراج كنوز المعارف وحقيقة الكمال المطلق. يلمّعون قلوبهم كما يلمع الفارس سيفه، و يعلنون البراءة من الصدأ المتراكم على القلوب، لأن قلوبهم بيت الله فكيف يهيئون هذا البيت لأعظم و أجل محبوب أفنوا حياتهم في البحث عنه. يطلبون الموت كما يطلبون الخلود، دخلوا الى الحياة من فوهة الموت ، هم مدارج الموت التي يعبر عليها أطفال التلعثم. المعرفة انهمار دموعهم أطفالاً كالنجوم تملأ جسد الرب ولامست شفاه العشاق فتكلمت بكل اللغات. وعلومهم مياه التكرار في رحم لذات المعارف، هم النساجون الذين نقشوا قلوبهم سجادةً للرب وأنفاسهم أنوار لامست عيون الله، انهم ثمرات معارفه التي اختزلت زمن الإنسان.
يعلنون من مكنون خيالهم: إن زمن الله قيلولة أسمائه بلا نهارات و إن زمن الإنسان خطيئة معلقة على رقبة الشمس، هم أبناء الشمس الذين عزموا على رؤية كل شيء والنظر إلى كل شيء وممارسة لذات كل شيء لأنهم عيون الرب في وجوده، يرى بهم كل شيء و ينظر بهم كل شيء و يلت بكل شيء، والحقيقة تعني توسلات الرؤيا لجسور السواحل في الظهور. والخيال عندهم ثرثرة المعاني في مجالس الغيب، هم أهل الليل، بيت الله الذي يتوسط ساقَيْ الوجود، ساق من نور وساق من ظلام. وأرواحهم معلقة بأرجوحة إعماء، وأفواههم تحمل خطابات المعاني للوجود ومرايا رؤية الرب التي تلت بجنون الخطابات. هم أطفال المعاني في أحضان المشيئة التي ربتهم أحراراً.
و مقاماتهم جروح أقدام الرب في مسيرة البرازخ. و أحوالهم رياح الجنوب التي لا تمل من العتاب، والكشف والحجاب بحار لمراكبَ غرقى، والفناء والبقاء ألواح تطفو على ساحل التِيْه الأعظم. لعبة من القرب و البعد لا تحظى بالقبل والاحتضان، وعشقهم هوس الموتى من وراء منافذ قيود اللذات، وحزنهم فرح قديم يطفو على سطح السعادة المتأخرة. وتوبتهم انحناء الجسد في بيت الخطايا. و تجريدهم عري الخطاب في غرف خالية من عسل الأنثى. ونفوسهم أقداح الطاعة الممتلئة بالتحولات. وتوحيدهم سكر الفناءان على موائد النار. وذواتهم موائد عليها فاكهة الجنة يأكل منها المؤمن والكافر. ونومهم سرير العبودية الذي يحلم بالمسافات. وصبرهم عربة يسحبها حصان الفقر، ورؤياهم امتداد الوادي المقدس المنطوي تحت أسرار دعوة نزع النعلين ولف الساقين والجلوس أخيراً فوق نار التيه والانتظار آخراً بلا أسماء … يقول لهم الرب: (من راسلته ابتليته بجميع البلاءات، ظاهرة وباطنة ومن لمسته جعلت العباد يبحثون عنه في كل مكان كي يكون وليهم، ومن قبّلته قطعتُ رأسه، ومن احتضنته أفنيته الى الأبد) قال: ( لم أصافح أحداً لأنه سيكون إياي). هؤلاء هم أهل العرفان الذين عشقوا الله وذابوا في كل معانيه و تجردوا من كل شيء من أجل الحضور والرؤيا والفناء بالمعنى الأسمى. انهم المجانين الذين يتطلعون الى عقل لا يغيب، فكيف نصف هؤلاء و الصفات حجب إنتهكوها والأسماء عبارات تجاوزوها؟
انهم كلمات الله التي لا تنفد.
انهم حقاً أهل الله.