اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد النبي الأمي الحبيب العالي القدر العظيم الجاه وعلى آله وصحبه وسلم .
دخلت مسرعا...؟
اتعرف اي عن اي حلقة نتحدث..؟
عمرك وعمري وعمر كل حي
ها أنت تسافر في كل حين .. تبحث عن تجارب الآخرين وتنظر في آثار السابقين.. سافر معنا خمس دقائق أو تزيد لترى موقفًا سيمر عليك بمفردك وستقف معه لوحدك.. شئت أم أبيت...
إنه موقف مر به المؤمن والكافر والبر والفاجر.. الذكر والأنثى والصغير والكبير.. بل حتى الأنبياء والرسل مرّ بهم الموقف المهول واللحظات الحاسمة..
إنه موقف قادم إليك، فتعال لترى وتسمع وتعيش لحظات مع من مرّ بهم الموقف قبلنا.. فخبروه وعرفوه وذاقوا طعمه وشربوا من كأسه.
أما وإنك العاقل الفطن تسير في عيون الآخرين لترى تجارهم وتقلب الكتب لترى كيف تأريخ الأمم.. تعال لترى نهاية أيامهم وآخر أنفاسهم فلقد قرأت كثيرًا وسمعت كثيرًا.. فتواضع لحروفي وأطلق بصرك لتسير معي في رحلة بين السطور..
إنها رحلة عبر الزمن لمن مرّ بهم الموت وحلّ ضيفًا عليهم.. إنها رحلة العمر.. رحلة بدأت وستنتهي، فانظر بين السطور نهايتك واختر لنفسك..
لا يزعجك الخوف فلا فائدة منه لدفع الموت ولا لرده، بل تأمل ساعات النهاية لهؤلاء واحسب نفسك منهم فلكل حي نهاية.. وربما يكون لك في ذلك عبرة. فأنت من الأموات غدًا.. ومن أصحاب القبور..
سآخذ بيدك وتأخذ بيدي في رحلة نوآنس بعضنا وتلتقي فيها قلوبنا.. فنحن رفقاء طريق..
سنسير مع الأنبياء والصالحين ونرى حالهم وما نزل بهم من الكرب وشدة الموت..
فإن لخروج الروح آلام وشدائد .. فهي تُنزع من الجسد وتجذب معها العروق والأعصاب، ألم تر أن الميت ينقطع صوته وصياحه من شدة الألم!!
إنه مشهد مؤثر وموقف لن يتكرر..
إنه مشهد الموت ولحظات الاحتضار.. عندما تبلغ الروح الحلقوم وترتفع من كل مفصل ويتحشرج الصدر وتذرف العينان..
عندها يتيقين ويتأكد الفراق .. ويأتي هذا التأكيد بطوي القدمين ورفعهما من الدنيا وكأنك تودع حياة الجري والسعي في هذه الأرض إلى دار الجزاء والحساب.. قال تعالى في أحسن وصف لهذا المشهد: }وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ{ سورة القيامة، الآية: 29.
عندها تبدأ مسيرة الآخرة.. ورحلة الجزاء والحساب }إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ{.
حال من يرى ظلالاً من الحزن وساعاتٍ من الندم وتفكر في المآل والمصير..
فالموت حقيقة قاسية رهيبة، تواجه كل حي، فلا يملك لها ردًا، ولا يستطيع لها أحدٌ ممن حوله دفعًا، وهي تتكرر في كل لحظة وتتعاقب على مر الأزمنة، يواجهها الجميع صغارًا وكبارًا، أغنياءً وفقراء، أقوياء وضعفاء، ومرضى وأصحاء، قال الله -تعالى-: }قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ{ سورة الجمعة،
الآية: 8.
نهاية الحياة واحدة فالجميع يموت. }كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ{ إلا أن المصير بعد ذلك مختلف }فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ{ سورة الشورى، الآية: 7.
والله عز وجل خلق الموت والحياة لشأن عظيم وأمر جسيم، فقال تعالى: }الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ{ سورة تبارك، الآية: 2.
وقد وصف سبحانه وتعالى شدة الموت في أربع آيات:
الأولى: قول الحق سبحانه وتعالى: }وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ{ سورة ق، الآية: 19.
الثانية: قول الحق سبحانه وتعالى: }وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ{ سورة الأنعام، الآية: 93.
الثالثة: قوله تعالى: }فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ{ سورة الواقعة، الآية: 83.
الرابعة: قوله تعالى: }كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ{ سورة القيامة، الآية: 26.
وقال تعالى يصف مشهد الموت بتفصيل عجيب وتصوير متتابع لهذا الحدث العظيم: }كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ{ سورة القيامة، الآيات: 26-30.
وقال تعالى، في أصدق وصف وأحسن تعبير: }وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ{ سورة ق، الآيتان: 19، 20.
وما أدراك -يا أخي- ما هذا المجيء لسكرات الموت؟ مجيءٌ لا مناص عنه ولا مهرب، لا تجدي معه حيلةٌ ولا تنفع معه وسيلة، إنه بداية نهايتك من هذه الدنيا وانقطاعك عنها، والإقبال على الآخرة ودخول معبرها، وترك ما وراءك من الأموال والقصور، والأهل والدور.
إنها -والله- ساعة مهولة ذات كربٍ شديد وما بعدها إلا وعدٌ أو وعيد، لو تفكرت في حلولها وأنت في نعيم وهناء لتكدرت حياتك ولهانت الدنيا عندك، وصغر عظيمها في عينك، ولتبدل فرحك حزنًا، وسعادتك كدرًا.. كيف لا؟ وأنت تفارق المال والولد، والأحباب والأصحاب إلى دار الجزاء والحساب، أهوالٌ تهون عندها أهوال.. حتى تنتهي في رحلة طويلة شاقة إلى أحد الفريقين }فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ{ سورة الشورى، الآية: 7.
قال الحكيم بن نوح بعض إخوانه: اتكأ مالك بن دينار ليلة من أول الليل إلى آخره لم يسجد فيها ولم يركع فيها، ونحن معه في البحر، فلما أصبحنا قلت له: يا مالك، لقد طالت ليلتك لا مصليًا ولا داعيًا، قال: فبكى، ثم قال: لو يعلم الخلائق ماذا يستقبلون غدًا ما لذوا بعيش أبدًا، إني -والله- لما رأيت الليل وهوله وشدة سواده، ذكرت به الموقف وشدة الأمر هنالك، وكل امريء يومئذٍ تهمُّه نفسه، لا يغني والد عن ولد ولا مولود هو جازٍ عن والده شيئًا، ثم شهق شهقة فلم يزل يضطرب ما شاء الله، ثم هدأ، فحمل عليَّ أصحابنا في المركب، وقالوا: أنت تعلم أنه لا يحمل الذِّكر فلم تهيجه؟ قال: فكنت بعد ذلك لا أكاد أذكر له شيئًا
إنه التذكر الدائم والوجل المستمر من ساعة الاحتضار وما بعدها والاستعداد لها بالعمل الصالح والتوبة النصوح.. إنه استعداد الأخيار ومبادرة الصالحين.
ونحن في هذا الزمان نضيع أعمارنا وننفق أوقاتنا فيما لا طائل من ورائه.. ولا فائدة من بعده بل إننا فرحون مستبشرون بذلك.. أرأيت كيف يضيع يومك وتنفق عمرك؟!
أما الحسن رضوان الله عليه فحين مر برجل يضحك، سأله: يابن أخي.. هل جزت الصراط؟ فقال الرجل: لا، قال: فهل علمت إلى الجنة تصير أم إلى النار؟ فقال: لا، قال: ففيم الضحك؟! عافاك الله والأمر هول، فما رُؤي الرجل ضاحكًا حتى مات
أي سفر أطول من هذا السفر؟ وأي زاد تحتاج؟ إنه -أيها الحبيب- زاد الآخرة }وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى{.
أما الموت الذي لم نذقه بعد فلا نَعرفُ ألمه وشدته إلا حين يقع.. فكل منا سيمر بتلك اللحظات العصيبة والدقائق الرهيبة... الأنفاس مشدودة، والعين حائرة كسيرة... إنها لحظة الاحتضار.
وحين تفتح عينك وملك الموت واقف على رأسك.. تُفكر في ماذا تلك اللحظات؟!
ونحن لم نذق الموت بَعُد.. ألمه وغُصَصه وكُربه.. ما هي؟
لحظاتُ لنرى حال من سبقنا إلى ذلك فهذا عمر بن العاص لما احتضر سأله ابنه عن صفة الموت فقال: والله لكأن جنبي في تخت ولكأني أتنفس من سَم إبرَهَ، وكأن غصن شوك يجر به قدمي إلى هامتي
وسأل عمر -رضي الله عنه- كعبًا فقال: أخبرني عن الموت؟
قال: يا أمير المؤمنين، هو مثل شجرة كثيرة الشوك في جوف ابن آدم، فليس منه عرق ولا مفصل، وهو كرجل شديد الذراعين فهو يعالجها وينتزعها، فبكى عمر.
هذا هو الموت وهذه شدته.. سيكون تفكيرك في تلك اللحظات منحإن الموت هو الخطبُ الأفظع، والأمر الأشنع، والكأس التي طعمها أكره وأبشع، وإنه الحادث الأهدم للذَّات، والأقطع للراحات، والأجلب للكريهات، فإن أمرًا يُقَطِّعُ أوصالك، ويُفِّرقُ أعضاءك، ويَهدم أركانك، لهو الأمر العظيم والخطب الجسيم، وإن يومه لهو اليوم العظيم..
[size=25]اعلم أنه لو لم يكن بين يدي العبد المسكين كربٌ ولا هول ولا عذاب سوى سكرات الموت بمجردها، لكان جديرًا بأن ينتغص عليه عيشه ويتكدر عليه سروره ويفارقه سهوه وغفلته وحقيقًا بأن يطول فيه فكره ويعظم له استعداده
كيف ونحن نعلم أن وراء الموت القبر وظلمته والصراط ودقته والحساب وشدته أهوالٌ وأهوال.. إنها رحلة ستنتهي بالجميع إلى محط الرحال هناك حيث النهاية جنةٌ أو نار...
قال وهب بن منبه: كان ملك من الملوك أراد أن يركب إلى أرض، فدعا بثياب ليلبسها، فلم تعجبه فطلب غيرها حتى لبس ما أعجبه بعد مرات، وكذلك طلب دابة فأُتي بها فلم تعجبه، حتى أُتي بدواب فركب أحسنها، فجاء إبليس فنفخ في منخره نفخة فجلاه كبرًا، ثم سار وسارت معه الخيول وهو لا ينظر إلى الناس كبرًا، فجاءه رجل رث الهيئة فسلم، فلم يرد عليه السلام، فأخذ لجام دابته، فقال: أرسل اللجام فقد تعاطيت أمرًا عظيمًا. قال: إن لي إليك حاجة، قال: اصبر حتى أنزل، قال: لا، الآن. فقهره على لجام دابته فقال: اذكرها، قال: هو سر، فأدنى له رأسه، فسارَّه وقال: أنا ملك الموت، فتغير لون الملك واضطرب لسانه ثم قال: دعني حتى أرجع إلى أهلي وأقضي حاجتي وأودعهم، قال: لا، والله لا ترى أهلك وثقلك أبدًا، فقبض روحه فخر كأنه خشبة.
ثم مضى فلقي عبدًا مؤمنًا في تلك الحال، فسلم عليه، فرد عليه السلام فقال: إن لي إليك حاجة أذكرها في أُذنك، فقال: هات، فسارَّه وقال: أنا ملك الموت، فقال: أهلاً وسهلاً بمن طالت غيبته عليَّ فوالله ما كان في الأرض غائب أحب إليَّ أن ألقاه منك، فقال ملك الموت: اقضِ حاجتك التي خرجت لها، فقال: مالي حاجة أكبر عندي ولا أحب من لقاء الله تعالى، قال: فاختر على أي حال شئت أن أقبض روحك؟ فقال: تقدر على ذلك؟ قال: نعم إني أمرت بذلك، قال: فدعني حتى أتوضأ وأصلي ثم اقبض روحي وأنا ساجد، فقبض روحه وهو ساجد
أما -والله- سيأتي يوم مثل يومي.. وسيمر عليك ما مر بي.. ألا فاعتبر.
قال أنس بن مالك: ألا أحدثكم بيومين وليلتين لم تسمع الخلائق بمثلهن: أول يوم يجيئك البشير من الله -تعالى- إما برضاه، وإما بسخطه، ويوم تُعرض فيه على ربك آخذًا كتابك. إما بيمينك وإما بشمالك. وليلة تستأنف فيها المبيت في القبور ولم تبت فيها قط، وليلة تمخض صبيحتها يوم القيامة
روي أن ملك الموت دخل على داود عليه السلام فقال: من أنت؟ فقال: من لا يهاب الملوك، ولا تمنع منه القصور، ولا يقبل الرُشا. قال: فإذًا أنت ملك الموت، قال: نعم، قال: أتيتني ولم استعد بعد!؟ قال: يا داود أين فلان قريبك؟ أين فلان جارك؟ قال: مات. قال: أما كان لك في هؤلاء عبرة لتستعد
أيام عمرك أيام قلائل، ولحظات محسوبة، وأنفاس معدودة، لو أردت زيادة في عمرك ولو للحظات -مقابل أموال الدنيا أجمع- لما استطعت إلى ذلك سبيلاً، فكيف بك الآن تضيعها في غير طاعة الله؟.. تنفق الساعات الطوال في لهو ولعب وهي لحظات عمرك الغالية وساعات حياتك الثمينة.. وقد ذكر ذلك أبو حازم فقال: إن بضاعة الآخرة كاسدة، يوشك أن تنفق فلا يوصل منها إلى قليل ولا كثير، ومتى حيل بين الإنسان والعمل لم يبق له إلا الحسرة والأسف عليه، ويتمنى الرجوع إلى حالٍ يتمكن فيها من العمل فلا تنفعه الأمنية
ولنسير لحظات لنرى بعضًا من حالات الاحتضار ونزلات الموت التي هي إلينا قادمة عاجلاً أو آجلاً. هذه حال رسول الله صلى الله عليه وسلم خير الأنبياء والمرسلين وأكرم الخلق على الله أجمعين عندما أصابته سكرات الموت وشدتها..
فقد قال صلى الله عليه وسلم وهو يدخل يديه في ركوة ماء ويمسح بها وجهه الشريف: «لا إله إلا الله، إن للموت سكرات» رواه البخاري.
ولما رأت فاطمة -رضي الله عنها- ما برسول الله عليه الصلاة والسلام
من الكرب الشديد الذي يتغشاه قالت: واكرب أباه فقال لها: «ليس على أبيك كرب بعد اليوم» رواه البخاري.
هذه حال سيد الخلق وحال من تفطرت قدماه وغفر له من ذنبه ما تقدم وما تأخر.
أما حال الصديق أبي بكر -رضي الله عنه- وهو المُبشر بالجنة لما احتضر -رضي الله عنه- تمثلت عائشة -رضي الله عنها- بهذا البيت:
أعاذل ما يغني الحذار عن الفتى
إذا حشرجت يومًا وضاق بها الصدر
فقال أبو بكر رضي الله عنه: ليس كذلك يا بنية ولكن قولي: }وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ{.
ثم قال: انظروا ثوبي هذين فاغسلوهما ثم كفنوني فيهما فإن الحي أحوج إلى الجديد من الميت
وهذا فاروق الأمة وثاني الخلفاء الراشدين والمُبشر بالجنة .. هذه حاله وهذا خوفه من الله -عز وجل- فقد قال عبد الله بن الزبير: ما أصابنا حزنٌ منذ اجتمع عقلي مثل حزن أصابنا على عمر بن الخطاب ليلة طُعن، قال: صلى بنا الظهر والعصر والمغرب والعشاء، أسر الناس وأحسنهم حالاً. فلما كانت صلاة الفجر صلى بنا رجل أنكرنا تكبيره، فإذا هو عبد الرحمن بن عوف، فلما انصرفنا قيل: طُعن أمير المؤمنين. قال: فانصرف الناس وهو في دمه لم يُصل الفجر بعد، فقل: يا أمير المؤمنين الصلاة، الصلاة. قال: ها الله ذا لاحظ لامرئٍ في الإسلام ضيع الصلاة، قال: ثم وثب ليقوم فانبعث جرحه دمًا، قال: يا أيها الناس أكان هذا على ملأ منكم. فقال له علي بن أبي طالب: لا والله، لا ندري من الطاعن من خلق الله أنفسنا تفدي نفسك، ودماؤنا تفدي دمك، فالتفت إلى عبد الله بن عباس فقال: اخرج، فسل الناس ما بالهم وأصدقني الحديث..
فخرج ثم جاء، فقال: يا أمير المؤمنين أبشر بالجنة، لا والله ما رأيت عينًا تطرف من خلق من ذكر أو أنثى.. إلا باكية عليك، يفدونك بالآباء والأمهات، طعنك عبُد المغيرة بن شعبة، وطعن معك اثنا عشر رجلاً فهم في دمائهم حتى يقضي الله فيهم ما هو قاض، تَهْنَك يا أمير المؤمنين الجنة.. قال: غُر بهذا غيري يابن عباس، فقال ابن عباس: ولِمَ لا أقول لك يا أمير المؤمنين؟ فوالله إن كان إسلامك لعزًا، وإن كانت هجرتك لفتحًا، وإن كانت ولايتك لعدلاً، ولقد قتلت مظلومًا، ثم التفت إلى ابن عباس فقال: تشهد بذلك عند الله يوم القيامة؟ فكأنه تلكأ. قال: فقال علي بن أبي طالب وكان بجانبه: نعم يا أمير المؤمنين نشهد لك عند الله يوم القيامة، قال: ثم التفت إلى ابنه عبد الله بن عمر فقال: ضع خدي إلى الأرض يا بني، قال: فلم أبح (أعبأ) بها وظننت أن ذلك اختلاس من عقله. فقالها مرة أخرى: ضع خدي إلى الأرض يا بني، فلما أفعل، ثم قال لي: المرة الثالثة: ضع خدي إلى الأرض لا أم لك، فعرفت أنه مجتمع العقل، ولم يمنعه أن يضعه إلا ما به من الغلبة، قال: فوضعت خده إلى الأرض حتى نظرت إلى أطراف شعر لحيته خارجة من بين أضغاث التراب، قال: وبكى حتى نظرت إلى الطين قد لصق بعينيه، قال: واصغيت بأذنين لأسمع ما يقول: قال: فسمعته وهو يقول: يا ويل عمر وويل أمه إن لم يتجاوز الله عنه
فلو كان هول الموت لا شيء
لهان علينا الأمر واحتُقِر الأمرُ
ولكنه حشر، ونشرٌ، وجنة
ونارٌ وما قد يستطيل به الخبرُ
ولما احتضر عثمان بن عفان رضي الله عنه جعل يقول ودمه يسيل.. لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، اللهم إني أستعين بك على أموري، وأسألك الصبر على بلائي.
هؤلاء أصابتهم شدة الموت وسكراته وهم الصحابة الأجلاء والرفقاء الأخلاء.. خلفاء الأمة الراشدون والمبشرون بالجنة.. فما بالك بحالنا وكيف إذا نزل بساحتنا؟! فالله المستعان.
أما معاوية بن أبي سفيان فعندما حضرته الوفاة، قال: أقعدوني. فأُقعد، فجعل يُسبّح الله تعالى ويذكره، ثم بكى. وقال: تَذْكُر ربك يا معاوية بعد الهرم والانحطاط، ألا كان هذا وغض الشباب نضر ريان، وبكى حتى علا بكاؤه، وقال: يا رب ارحم الشيخ العاصي ذا القالب القاسي، الله أقل العثرة، واغفر الزل، وجد بحلمك على من لا يرجو غيرك ولا يثق بأحدٍ سواك
وبكى أبو هريرة في مرضه فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: أما إني لا أبكي على دنياكم هذه، ولكني أبكي على بعد سفري وقلة زادي، وأني أصبحت في صعود مُهبطٌ على جنة ونار، ولا أدري أيهما يؤخذ بي
وقالت فاطمة بنت عبد الملك بن مروان امرأة عمر بن عبد العزيز: كنت أسمع عمر في مرضه الذي مات فيه يقول: اللهم أخفِ عليهم موتي ولو ساعة من نهار، فلما كان اليوم الذي قبض فيه، خرجت من عنده فجلست في بيت آخر وبيني وبينه باب وهو في قبة له فسمعته يقول: }تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ{ سورة القصص، الآية: 83.
ثم هدأ فجعلت لا أسمع حركة ولا كلامًا، فقلت لوصيفٍ له: انظر أنائمٌ هو؟ فلما دخل صاح، فوثبت فإذا هو ميت
الله أكبر ما أسرع قدوم تلك اللحظات إلينا }قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ{ نعم أينما اتجهنا ومهما اختفينا فإنه ملاقينا يومًا ما.. ولو قيل إنه سيقدم علينا بعد مئات السنين لأهمنا نقص اليوم والليلة لأن ذلك يقربنا إليه ويدنينا منه وكيف وأعمارنا دون المائة وتقارب الستين.. بل وربما نؤخذ ونحن في زهرة الشباب أو دون ذلك.
ولكن أين الاستعداد للرحيل.. والاستعداد لملاقاته؟ ثم والله ما بعده من السؤال في تلك الحفرة الضيقة ثم الفزعات والأهوال يوم القيامة.. ثم المنصرف إلى أحد الدارين.
قال صفوان بن سليم: في الموت راحة للمؤمن من شدائد الدنيا وإن كان ذا غُصص وكُرب، ثم ذرفت عيناه
وعند ذكر ما بعد الموت يهون الموت وشدته وألمه وغصصه وسكراته خاصة إذا كان الخوف من فتنة الدين كما قال سفيان الثوري: ما من موطن من المواطن أشد عليّ من سكرة الموت أخاف أن يشدد علي، فأسأل التخفيف فلا أجاب فأُفتن
وقد بكى ليلة إلى الصباح، فلما أصبح قيل له: أكل هذا خوفًا من الذنوب؟ فأخذ تبنة من الأرض وقال: الذنوب أهون من هذه، وإنما أبكي خوفًا من سوء الخاتمة.
وهذا من أعظم الفقه أن يخاف الرجل أن تخدعه ذنوبه عند الموت فتحول بينه وبين الخاتمة الحسنى.
وقد ذكر الإمام أحمد عن أبي الدرداء أنه لما احتضر جعل يُغمى عليه ثم يفيق ويقرأ: }وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ{.
فمن أجل هذا خاف السلف من الذنوب أن تكون حجابًا بينهم وبين الخاتمة الحسنى..
قال: واعلم أن سوء الخاتمة -أعاذنا الله تعالى منه- لا تكون لمن استقام ظاهره وصلح باطنه.. ما سُمع بهذا ولا عُلم به ولله الحمد، إنما تكون لمن له فسادٌ في العقيدة أو إصرار على الكبيرة، وإقدام على العظائم، فربما غلب ذلك عليه حتى نزل به الموت قبل التوبة، فيأخذه قبل إصلاح الطويّة، ويصطدم قبل الإنابة، فيظفر به الشيطان عند تلك الصدمة، ويختطفه عند تلك الدهشة والعياذ بالله
.. ليتك ترى حالتك إذا حل بك الموت ونزل بساحتك.. أما وإن الله أمهل لك فهيا لترى حال من سبقنا في تلك اللحظات الحرجة والدقائق المضطربة .. التي ستمر عليك عما قريب وبعد فترة من الزمن قصيرة فانظر في حال من مر عليهم واعتبر بما جرى لهم.
لما نزل الموت بسليمان التيمي قيل له: أبشر فقد كنت مجتهدًا في طاعة الله تعالى، فقال: لا تقولوا هكذا فإني لا أدري ما يبدو لي من الله عز وجل فإنه يقول سبحانه: }وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ{ سورة الزمر، الآية: 47.
قال بعضهم: عملوا أعمالاً كانوا يظنون أنها حسنات فوجدوها سيئات.
وقالت أم الدرداء: كان أبو الدرداء إذا مات الرجل على الحال الصالحة قال: هنيئًا لك، يا ليتني كنت مكانك، فقالت أم الدرداء له في ذلك فقال: هل تعلمين يا حمقاء أن الرجل يصبح مؤمنًا ويمسي منافقًا، يُسلبُ إيمانه وهو لا يشعر، فأنا لهذا الميت أغبط مني لهذا بالبقاء في الصلاة والصيام
اسأل الله الثبات على هذا الدين فكل حين نسمع أخبار من ترك طريق الهداية وزلت به قدمه في طريق الغواية.. أخبار تقشعر لها الأبدان وتذهل لها العقول فإنها أشد فتنة وأكبر مصيبة أن يتحول الإنسان من حال الصلاح إلى حال أخرى.. عصمنا الله من ذلك وأحيانا مسلمين وأماتنا مسلمين.
لما حضرت ابن المنكدر الوفاة بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: والله ما أبكي لذنب أعلم أني أتيته، ولكن أخاف أني أتيت شيئًا حسبته هينًا وهو عند الله عظيم
ووالله إن في ذلك لعبرة، فنحن نودع الآباء والأبناء ونرى كيف يوسدون الثرى وينثر عليهم التراب وتغلق عليهم تلك الحفر الضيقة في قبور صغيرة موحشة، ولكننا لا نتفكر فيما نحن عليه مقبلون، ولممر نحن له عابرون.. ولطريقٍ عليه سائرون.
بكى الحسن البصري عند موته وقال: نُفيسة ضعيفة، وأمر مهولٌ عظيم وإنا لله وإنا إليه راجعون.
ولو تفكرت - الآن في أن الموت ببابك وملك الموت يطلب جنابك، ولعلمت هول المطلع، ووالله لفزعت وذُهلت، هذا وأنت بحال الدنيا، فكيف والأمر جد، ومن الموت لا بد.. نزل بساحة من سبقنا وله منزل بساحتنا حتى نقدم على الله عز وجل.. وما ظنك بهذا القدوم.. وكيف تجهزت له؟! إنه قدوم على الله بعد مسير في هذه الدنيا وضرب في أطراف وحساب لأزمانها وأوقاتها وذنوبها وحسناتها.. إنه حساب لا يدع مثقال ذرة إلا أحصاها ولا أقل من ذلك ولا أكثر إلا في كتاب.
سُئل أبو حازم: كيف القدوم على الله؟ قال: أما المطيع فكقدوم الغائب على أهله المشتاقين إليه، وأما العاصي فكقدوم الآبق على سيده الغضبان.
[/size]