واعلم أن كلّ جمالٍ محبوبٍ عند مدرك ذلك الجمال
واللهُ تعالى جميلٌ يحبُّ الجمال
ولكنّ الجمال إن كان يناسبُ الخفّة وصفاء اللون أُدرك بحاسة البصر
وإن كان الجمال بالجلال والعظمة وعلو الرتبة
وحسن الصفات والأخلاق وإرادة الخيرات
لكافة الخلق وإفاضتها عليهم على الدوام
إلى غير ذلك من الصفات الباطنة
أدرك بحاسة القلب
و لفظُ الجمال قد يُستعار أيضاً لها فيقال :
إن فلاناً حسن وجميل ولا تراد صورته.
و إنما يعنى به أنه جميل الأخلاق محمود الصفات حسن السيرة ،
حتى قد يحب الرجل بهذه الصفات الباطنة استحساناً لها كما تحب الصورة الظاهرة .
وقد تتأكد هذه المحبة فتسمّى عشقاً
ومن العجب أن يعقل عشق شخص لم تشاهد قطّ صورته أجميل هو أم قبيح وهو الآن ميت ؟
ولكن لجمال صورته الباطنة وسيرته المرضية
والخيرات الحاصلة من عمله لأهل الدين
وغير ذلك من الخصال .
ثم
كيف لا يعقل عشق من ترى الخيرات منه
بل على التحقيق من لا خير ولا جمال
ولا محبوب في العالم إلا وهو حسنة من حسناته
وأثر من آثار كرمه وغرفة من بحر جوده
بل كل حسن وجمال في العالم أدرك بالعقول والأبصار والأسماع وسائر الحواس
من مبتدإ العالم إلى منقرضه ومن ذروة الثريا إلى منتهى الثرى
فهو ذرة من خزائن قدرته ولمعة من أنوار حضرته
فليت شعري كيف لا يُعقل حب من هذا وصفه ؟
وكيف لا يتأكد عند العارفين بأوصافه حبّه حتى يجاوز حداً يكون إطلاق اسم العشق عليه ظلماً في حقه لقصوره عن الإنباء عن فرط محبته ?
فسبحان من احتجب عن الظهور بشدة ظهوره واستتر عن الأبصار بإشراق نوره
ولولا احتجابه بسبعين حجاباً من نوره لأحرقت سبحات وجهه أبصار الملاحظين لجمال حضرته
و لولا أن ظهور سبب خفائه لبهتت العقول ودهشت القلوب وتخاذلت القوى وتنافرت الأعضاء ، و لو ركبت القلوب من الحجارة والحديد لأصبحت تحت مبادئ أنوار تجليله دكًّا دكّا ،
فأنى تطيق كُنه نور الشمس أبصار الخفافيش
و سيأتي تحقيق هذه الإشارة في كتاب المحبة
و يتضح أن محبة غير الله تعالى قصور وجهل بل المتحقق بالمعرفة لا يعرف غير الله تعالى ،
إذ ليس في الوجود تحقيقاً إلا الله وأفعاله .
و من عرف الأفعال من حيث إنها أفعال لم يجاوز معرفة الفاعل إلى غيره
فمن عرف الشافعي مثلاً رحمه الله وعليه وتصنيفه من حيث إنه تصنيفه لا من حيث إنه بياض و جلد وحبر وورق وكلام منظوم ولغة عربية
فلقد عرفه ولم يجاوز معرفة الشافعي إلى غيره ، ولا جاوزت محبته إلى غيره
فكل موجود سوى الله تعالى فهو تصنيف الله تعالى وفعله وبديع أفعاله
فمن عرفها من حيث هي صنع الله تعالى فرأى من الصنع صفات الصانع كما يرى من حسن التصنيف فضل المصنف وجلالة قدره كانت معرفته ومحبته مقصورة على الله تعالى غير مجاوزة إلى سواه
ومن حدِّ هذا العشق أنه لا يقبلُ الشّركة
وكل ما سوى هذا العشق فهو قابل للشركة
إذ كلُّ محبوبٍ سواه بتصوّر له نظير إمّا في الوجود وإما في الإمكان
فأما هذا الجمال فلا يتصور له ثان لا في الإمكان ولا في الوجود
فكان اسم العشق على حب غيره مجازاً محضًا لا حقيقة .
نعم الناقصُ القريبُ في نقصانه من البهيمة قد لا يدركُ من لفظةِ العشقِ إلا طلب الوصال الذي هو عبارةٌ عن تماسّ ظواهر الأجسام وقضاء شهوة الوقاع .
فمثل هذا الحمار ينبغي أن لا يستعمل معه لفظه العشق والشوق والوصال والأنس ،
بل يجنّب هذه الألفاظ والمعاني كما تجنب البهيمة النرجس والريحان وتخصص بالحشيش وأوراق القضبان.
فإن الألفاظ إنما يجوز إطلاقها في حقّ الله تعالى إذا لم تكن موهمة معنى يجب تقديس الله تعالى عنه.