الملتقى الصوفى للنور المحمدى
عزيزى الزائر عزيزتى الزائرة يرجى التكرم بتسجيل الدخول اذا كنت عضومعنا
او التسجيل معنا ان لم تكن عضو وترغب فى الانضمام الى اسرة المنتدى

سنتشرف بتسجيلك

شكرا لك
ادارة المنتدى
الملتقى الصوفى للنور المحمدى
عزيزى الزائر عزيزتى الزائرة يرجى التكرم بتسجيل الدخول اذا كنت عضومعنا
او التسجيل معنا ان لم تكن عضو وترغب فى الانضمام الى اسرة المنتدى

سنتشرف بتسجيلك

شكرا لك
ادارة المنتدى
الملتقى الصوفى للنور المحمدى
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

الملتقى الصوفى للنور المحمدى

الملتقي الصوفي للنور المحمدي
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 مراحل السالكين

اذهب الى الأسفل 
2 مشترك
كاتب الموضوعرسالة
الهدهد السليماني
الاداره
الاداره
الهدهد السليماني


عدد المساهمات : 1979
نقاط : 16629
التفاعل مع الاعضاء : 35
تاريخ التسجيل : 05/11/2010

مراحل السالكين Empty
مُساهمةموضوع: مراحل السالكين   مراحل السالكين Emptyالثلاثاء يناير 03, 2012 1:54 pm

هذا مقتطف من كتاب مراحل السالكين

مرحلة الصحبة

هي من أجلّ عقبات الطريق وأصعبها وأسهلها، صعبة سهلة يعرف الأمرين فيها أهل العرفان، وأرباب الذوق الطاهر والوجدان ولا بدع، فإن آداب الصحبة كثيرة، أساسها التوبة ثم التحقق بحال الأستاذ في كل حال، والتخلق بأخلاقه، والعمل بأعماله، والقول بأقواله، ولذلك لا تصح صحبة من لم يكن كاملاً عارفاً فاضلاً كبيراً في طريق الحق، متمسِّكاً بالسُنّة المحمدية، والسيرة المصطفويّة، مُبَرّأ من الزيغ والابتداع، شريف الخلال، طاهر الطباع، ليكون قدوةً لمن يصحبه، وللصحبة آثار.
وقد جاء في الخبر عن النبي الأبرّ صلى الله عليه وسلم (المرء على دين خليله

فلينظر أحدكم من يخالل).
ومن أعظم آداب الصحبة، صحة الاتباع بحُسْنِ الظن للأستاذ، والإستسلام لحكمته، والأخذ بعقيدته بعد التحقق بأنه على السُنّة الُسنّية لم يبرح، معتقداً ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وأصحابه والتابعون، نفعنا الله تعالى والمسلمين بشريف أنفاسهم وجليل نفحاتهم، ودائم بركاتهم.

وقد يصحبُ الخبُّ السيئُ الظنِّ العارفَ الكاملَ المحمديّ، ولكن يصحبه بقلبٍ فاسد، وعينٍ منتقدة، وظنٍّ قبيحٍ سيئ، فلا يزداد بصحبته إلا بُعداً عن الله، وعداوةً للحق وأهله.

وقد يصحب البرُّ الكريمُ الرجلَ الصالحَ، الذي لم يبلغ مرتبته ذلك العارف المحمديّ، ولكن يصحبه بقلبٍ سليمٍ ونيّةٍ طاهرةٍ واعتقادٍ جيّد وظنٍّ حسن، فلم يبرح حتى يفتح الله عليه، وينتظم ببركة نيَّتِهِ وطهارةِ قلبه، وحسنِ اعتقاده في عداد الصالحين الواصلين، وكذلك جرت عادة الله، ولا إله إلا الله.

وعلى هذا، فمن أهم الواجبات على الصاحب السالك أن يُحْسِنَ الظنَّ بأستاذه، ويعتقد به الخير والصلاح، وأن لا يتطرق بالنزغة الإبليسية الشبهة فيه، فمن كان كذلك لا يجيء منه شئ.

وقد جاء في كتاب الله تعالى قوله سبحانه (ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجِنِّ والإنس لهم قلوبٌ لا يفقهون بها ولهم أعينٌ لا يُبصرون بها ولهم آذانٌ لا يسمعون بها أولئك كالأنعامِ بل هم أضلّ أولئك هم الغافلون)، وقال تعالى (قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها).ومن سِرِّ كلامِ الحقِّ تقدّسَتْ أسماؤه وهو العليم الخبير، عرفنا أنّ مُجَرَّد الصُحبة لا ينفع بل ننظر إذا رأينا للطالب الصاحب قلباً يفقه اللطائف وعيناً

تُبصرُ العوارف، وأُذُناً تسمع المعارف، وسِرَّاً ليس بغافل، ونفساً مُزَكّاة بالأخلاق النفيسة، غير مُضَمَّخة بلوث الدسيسة، هنالك نعتقد أنه سيُفتح عليه بإذن الله، وسيصل إلى حضرة القرب، ويندمج في أهل مرتبة الحب، ويصير له حصة عظيمة من مائدة القلب، وإن كان كما جاء في النص، له قلبٌ ولكن لا يفقه، وعينٌ ولكن لا تُبصر، وأُذُنٌ ولكن لا تسمع، فما هو إلا كالأنعام، بل هو أضلّ، وهو سمير الغفلة في خَيبةِ دسيسته والعياذ بالله تعالى، والله ولي المتقين.

وهنا نكتة لطيفة، وتلك أن انحجاب القلب عن الفقه بالله، وانحجاب العين عن رؤية ما يُعتبر به من أسرار الله، وانحجاب الأذن عن سماع الكلام الذي يدل على الله، إنما كل ذلك من ظُلمة الكفر والعياذ بالله، وفي أهل الحجاب من المؤمنين، إنما يكون من حب الدنيا والإنهماك بها والإنكباب على جيفتها، وذلك أيضاً من حُمْقٍ في النفس وغفلةٍ في السِرّ.
قال صلى الله عليه وسلم (الكيِّسُ مَن دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والأحمق من أتبع نفسه هواها وتمنّى على الله)، وقال عليه الصلاة والسلام (من أصبح والدنيا أكبر همِّه فليس من الله في شئ، وألزم الله قلبه أربع خصال، هَمّاً لا ينقطعُ عنه أبدا، وشُغلاً لا يتفرغ منه أبدا، وفقراً لا يبلغ غناه أبدا، وأملاً لا يبلغ منتهاه أبدا).وقد أجمع أهل الحضرة الكبرى من أهل الله على أن المعاني يُقام لها صور في الآخرة لإقامة الحجة، وهذا من باهر العدل الإلهي، لتبيض وجوه وتسود وجوه، قال صلى الله عليه وسلم (يؤتى بالدنيا يوم القيامة في صورة عجوزٍ شمطاء زرقاء، أنيابها بادية، مُشَوّهٌ خَلقُها، فتشرف على الخلائق، فيُقال: أتعرفون هذه؟ فيقولون: نعوذ بالله من هذه، فيُقال: هذه الدنيا التي تفاخرتم عليها وبها

تقاطعتم الأرحام، وبها تحاسدتم وتباغضتم واعتززتم، ثم تُقذف في جهنم فتنادي: أي رب، أين أتباعي وأشياعي؟ فيقول الله تعالى: ألحقوا بها أتباعها وأشياعها).
فمن هذا الحديث الشريف، يعرف الحكيم اللبيب أن التفاخر والتقاطع والتحاسد والتباغض، والتعزز والتكبر والحرص والكذب والمعاصي القبيحة، والعيوب الفادحة كلها تنشأ من حب الدنيا، ومن ابتلي بحب الدنيا وزلَّ عن طلب الآخرة، يرى العِبرةَ بعينه وكأنه ما رآها، ويسمعُ النصيحةَ وكأنه ما سمعها، وتلقى إلى قلبه الحكمة فلم يفقهها، وهنالك من يصحب الصالحين والحكماء الربانيين وكأنهم لم يرهم، ويقوم أمام الوليّ الصفيّ العارف المحمدي وعينه عنه في عمى مطلق، وأذنه عن سماع كلامه في صممٍ مُطلق.
ومثل ذلك المحجوب المردود الذي لعبت بقلبه، وعبثت بلُبِّهِ محبةُ الدنيا، من أين ينتفع بصحبة الصالحين، وعباد الله المقربين؟ ومن أين له قلبٌ يفقه حِكَمَهم؟ وأُذُن تعي لطائف إشاراتهم؟ وعينٌ تُبصرُ أطوارهم وأحوالهم؟ وتعتبر برقائقها، وتأخذ الحصة الواجبة من حقائقها، شتّان بين الظلماتِ والنور، شتّان بين الظِل والحَرور.

وعلى هذا، فيجب على من يصحب القوم أن يتنبه ويعي ويفقه، وكل ذلك بالتجرد عن الغفلة، والإنسلاخ قلباً عن حب الدنيا، ولا يضرُّ العبدَ أن الدنيا ملء يديه إذا لم تكن في قلبه، بل جاء في الخبر عن النبي الأطهر صلى الله عليه وسلم (ليس الرجل رجل الدنيا أو رجل الآخرة، بل الرجل رجلهما).
وكذلك فهذا المعنى الأقدس يدل عليه قوله تعالى (ربنا آتنا في الدنيا حسنةُ وفي الآخرة حسنة وقِنا عذابَ النار)، والحسنةُ في الدنيا العيشةُ الراضية التي تَعْذب بالعملِ الصالح والعيشِ الرغد، والحسنةُ في الآخرة النظرُ إلى وجه الله

الكريم في الجنة، وقال آخرون: الحسنة في الدنيا محبة سيدنا محمد وآله، والحسنةُ في الآخرة المغفرة والرِضا من الله تعالى.

وقد رأى العارفون الصُحْبة أول قنطرة يعبر منها السالك إلى حضرة الحق، لأنها تبدل خُلُقَ السالك السيئ بالحسن، وتفرغ فيه جذوة الحال ، فتصلح بإذن الله كلِّهِ، قال تعالى (وكونوا مع الصادقين)، أعني الذين لم يشب إيمانهم بظلم، الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وقفوا مع الحق وتخلَّصوا من ربقة الباطل ورجعوا بكلِّهم إلى الله، إنا لله وإنا إليه راجعون، ومن تشبّه بقومٍ فهو منهم، ومن أحب قوماً حُشِرَ معهم.

وقد دللنا العاقل على الباب الذي يدخل منه في مقام الصحبة إلى بحبوحة النفع والسعادة والسلامة وهو ترك حب الدنيا، ومن تخلّص من محبة الدنيا فقد أخلص المحبة لله ولأهل الله، وحينئذ ينتفع بصحبة من تحصل له صحبته من الصالحين، والله المعين.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
الهدهد السليماني
الاداره
الاداره
الهدهد السليماني


عدد المساهمات : 1979
نقاط : 16629
التفاعل مع الاعضاء : 35
تاريخ التسجيل : 05/11/2010

مراحل السالكين Empty
مُساهمةموضوع: رد: مراحل السالكين   مراحل السالكين Emptyالثلاثاء يناير 03, 2012 1:57 pm

مرحلة لذة العلم بالله تعالى

لا يخفى أن أعظم لذات العارفين العلم بالله تعالى وصفاته وأفعاله، وأعظم لذات المحجوبين، لذة الرياسة ولذة الجماع، فالإنسان يشارك البهائم والطيور في إدراك لذة الجماع والرياسة وحبهما، حتى أن الإنسان الأحمق البليد الذي لا يرتفع إلى النظريات، ولا يدرك المعقولات، يدرك لذة الجماع والرياسة ويحبهما، بل ربما بذل روحه في تحصيلهما، فإذن، لا يمتاز بذلك عن سائر الحيوانات ولا يفضلها، ولهذه الحكمة قال تعالى في أهل هذا الوصف (أولئك كالأنعام بل هم أضل)، وفي الخبر الشريف (القردة والخنازير أعقل عند الله ممن عصاه).ولا تحصل الفضيلة للإنسان إلا بإدراك لذة العلم بالله تعالى وصفاته

وأفعاله وحبه، وذلك دليلٌ على سلامة عقل المرء وقلبه، وإلا فالقلب السقيم لا يدرك صاحبه لذة العلم بالله، ومن كان قلبه سقيماً بالغفلة عن الله فكأنه لا قلب له، قال الله تعالى (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب ) الآية. وإن سقيم القلب لا يدرك لذة محبة الله تعالى ولذة العلم به إلا كما يدرك العنين لذة الجماع، ولذلك ترى العنين الذي لا يلتذ بالجماع كثير الحرص على الرياسة جمع المال، كيف كان. لأن همته تنتبه، وعزيمته لم تتوجه إلى اللذات الأخرويّة واللطائف المعنوية الشريفة النافعة الكاملة، بل هي منصرفة من لذة خسيسة إلى أخرى خسيسة، وما ذلك إلا من سقم القلب والعياذ بالله تعالى.
وهنا سر لطيف، وذلك أن دواء سقم القلب التنبه بذكر الموت، واستنقاذ القلب بذلك من الغفلة، فيقصِّرُ العبدُ أملَهُ في الدنيا، ويزهد بها ويرغب عنها بقلبه لا هادماً لها ولا مُنقطعاً عنها، وعمّا يرجع إليه ولعياله منها بل يكتسب الحلال الطيب، ويسعى ليدفع البؤس والضنك عن أهله وعياله، السعي المرْضيّ الذي لا يضره في دينه، ولا يبخسه بضاعة قلبه، فيُطيل أمله في الدنيا، ويحجب والعياذ بالله قلبه عن الأخرى، فإن ذلك الحجاب من البلاء الذي يهدم أمرَيّ العبد في آخرته ودنياه، ونعوذ بعزّة الله.

خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم على أصحابه فقال (هل منكم من يريد أن يُذهب الله عنه العمى ويجعله بصيرا؟) قالوا: بلى. قال (ألا إنه من رغب في الدنيا وطال أمله فيها أعمى الله قلبه على قدر ذلك، ومن زهد في الدنيا وقصُرَ أملُهُ فيها أعطاه الله عِلْماَ بغير تعلُّم، وهدى بغير هداية قلب).والخروج عن حب الدنيا، وطلب الرياسة فيها، والقهر للنفس بالمخالفات، والإنحطاط عن منصات الدعاوى بالكلية، هو المشرب الخاص (للإمام السيد

أحمد الرفاعي) رضي الله عنه وأرضاه، وقد أقام ركن طريقه المبارك على ذلك، فمن أراد الإلتحاق بجنابه، والتأدُّب بآدابه، فلينبه قلبه بالزُهد وقِصر الأمل في الدنيا، ليضيء قلبه بنور العلم بالله تعالى، وليكون من القوم الذين طابوا بالله، وتوكلوا عليه، لا يرون للدنيا قدْراً في قلوبهم إن أقبلت، ولا تنزعج لها هممهم إن أدبرت، دأبهم الرضا من الله وعن الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
الهدهد السليماني
الاداره
الاداره
الهدهد السليماني


عدد المساهمات : 1979
نقاط : 16629
التفاعل مع الاعضاء : 35
تاريخ التسجيل : 05/11/2010

مراحل السالكين Empty
مُساهمةموضوع: رد: مراحل السالكين   مراحل السالكين Emptyالثلاثاء يناير 03, 2012 2:03 pm

مرحلة الجوع

وهي ترك الشره على الطعام وتقليله،لا الجوع المفرط الذي يضر بالمزاج، ولا الشره على الطعام الذي يفسد نظام المعدة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أفضلكم عند الله تعالى أطولكم جوعا وتفكُّرا، وأبغضكم إلى الله تعالى كل أكولٍ نؤوم شروب)، وفي الخبر الشريف (الفكر نصف العبادة، وقلة الطعام هي العبادة)، وقال عليه الصلاة والسلام (أفضل الناس مَن قَلَّ طعامه وضحكه، ورضي بما يستر به عورته)، وفي الحديث الشريف أيضا (من شبع ونام قسا قلبه).ولا بدع؛ فإن كثرة الأكل تورث كثرة النوم، وكثرة النوم تورث البلادة والبطاءة والبطالة، وقال عليه الصلاة والسلام (أحيوا قلوبكم بقلة الضحك، وطهروها بالجوع، تصفو وترق).
قلت: وذلك لأن عدم الشبع يسكن زفرة النفس، ويجعلها متذللة لله تعالى، ويزيل بطرها وطغيانها، ولا يكسر النفس شئ كالجوع.

وقد عرضت الدنيا وخزائنها على النبي صلى الله عليه وسلم فقال (لا، أجوع يوماً وأشبع يوما، فإذا جُعْتُ صبرت وتضرَّعت، وإذا شبعت حمدت وشكرت)، وقال عليه الصلاة والسلام (جاهدوا أنفسكم بالجوع والعطش، فإن الأجر في ذلك كأجر المجاهد في سبيل الله)، وقال صلى الله عليه وسلم (إذا

أحبَّ الله عبداً ابتلاه حتى يسمع تضرعه)
، فإذا تضرع العبد اختياراً يكون أكمل ممن يتضرع اضطرارا، على أنه تعرَّف لربه في الرخاء، وقد وعد سبحانه بأن من يتعرَّف إليه في الرخاء يتعرَّف إليه في الشِدة.
جاء في الخبر عن النبي الأطهر الأبرّ صلى الله عليه وسلم (إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم، فضيِّقوا مجاريه بالجوع والعطش). ولتعلم أيها المُحب، أن كل ما جاء في أخبار الجوع والعطش لا يشير إلى الإفراط فيهما، بل القصد منه كله عدم الشبع والميل في ذلك إلى طرف الجوع وعدم الريِّ التام؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (كلوا واشربوا في أنصاف البطون فإنه جُزءٌ من النبوة).هذا هو المقصود عند الشارع الأعظم، حكيم الأنبياء وسيدهم صلى الله عليه وعليهم أجمعين، لا أن يجوع المرءُ ويعطش حتى تتألم نفسه، أو يعتلَّ مِزاجُهُ، فيُمرِضُهُ ذلك ويُضعِفُ دماغه، فذلك حرامٌ البَتَّة، والنفس مَطِيَّة المرء كما ورد في الحديث، وقد أمر كل امرئ بوقاية نفسه، ويدلُّك على مُراد الشارع قوله صلى الله عليه وسلم (طعامُ الإثنين كافي الثلاثة، وطعام الثلاث كافي الأربعة)، وفي رواية أخرى (طعام الواحد يكفي الإثنين، وطعام الإثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية).
واختلافُ المقاديرِ في هذه الأحاديث الشريفة لاختلاف الأشخاص والطبائع، فالمقدار القليل النافع من الطعام في حق كل أحد هو ما يكون دون الشبع، فلا يُمرضُ الجوعُ الرجل، ولا يُخرجه عن اعتدال مِزاجه ويُضعف قِواه، ولا يُزحزِحُهُ عن صحته، ولا يعرض حواسه للأذى، ولا عقله للنقصان، فذلك حرام.
ومِثلُهُ الشبع المُبطِر الذي يورِثُ كَثرةَ النومِ والبلاهةِ والبلادةِ والبطالة

والبطاءة، ويقوّي الشهوة، ويرفع على القلب حُجُب الغفلة، ويمنع القلب أن ينظر إلى ملكوت السماوات والأرض.

وليس القلب الذي ينظر إلى الملكوت هو الجسم الصنوبريّ الذي هو العضو الرئيس من أعضاء الإنسان، بل هو جوهر قُدس الذات، خلقه الله سبحانه بنفخة من روحه، وألبسه ذلك الجزء الصنوبريّ، فالجُزء الصنوبريّ مُستقرُّه ومِثالُهُ كماء الضياء في العين، وإذا كانت المعدة معتدلة الإمتلاء، لا خالية ولا مالية، نشط الوجود، وراق الفكر، وصح الرأي، وعكس النقيضين عكس في الحال لا محالة.

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب اللحم والعسل، وكان يأكل الثريد باللحم والقرع، ويأمر السيدة عائشة رضي الله عنها قائلاً (إذا طبختم قدراً، فأكثروا فيه من الدباء فإنه يسرُّ القلبَ الحزين)، وكان يأكل لحم الطير الذي يُصاد، ولكن لا يتبعه ولا يصيده، ويحب أن يُصاد له، وإذا جيء له به أكله.

وكان يحبُّ من الشاةِ الذراعَ والكتف، ويحب الخبز المتخَذ من دقيق برٍّ وسمنٍ ولبن، وأكل من خبز الشعير، وأكل الرطب بالقثاء، ويحب الزبد والتمر، ويحب اللبن، ولم يشبع من طعامٍ قط.

وهذا كان دأب شيخِنا سيد الصدِّيقين في زمانه، الغوث الأكبر ( السيد أحمد الرفاعي الحُسيني ) رضي الله عنه وعنّا به، ونفعنا بعلومه وآدابه والمسلمين.

فاعمل أيها المحب بهذا الأدب، لا تُفرِّط ولا تُفرِط، وكُن وسطاً والسلام علينا وعليك والحمد لله رب العالمين.


عدل سابقا من قبل الهدهد السليماني في الأربعاء يناير 04, 2012 3:02 am عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
الهدهد السليماني
الاداره
الاداره
الهدهد السليماني


عدد المساهمات : 1979
نقاط : 16629
التفاعل مع الاعضاء : 35
تاريخ التسجيل : 05/11/2010

مراحل السالكين Empty
مُساهمةموضوع: رد: مراحل السالكين   مراحل السالكين Emptyالثلاثاء يناير 03, 2012 2:09 pm

مرحلة الأخلاق

الأخلاق منها الحَسَنُ ومنها السيئ، قال أولو النظر: الخُلُق كيفية نفسانية هي بطيئة الزوال عن النفس، أو غير زائلة عنها، وهي تقتضي صدور فعل عن النفس يبرز من غير تدبُّرٍ ولا تفكُّر.
ويُقال: إذا كانت أشكال أعضاء الإنسان على ما ينبغي، حسنة التركيب والمزاج، كانت أخلاقه حسنة على الغالب، وقلبه سليماً شريفاً مُنقاداً للشرع والعقل، وقد ترى إنساناً حسن البشرة، جيد الوجود، فتظنه حسن التركيب والمزاج والحال لم يكن كذلك، بل قد يكون في بعض أعضائه ما هو قبيح التركيب لسِرٍّ قديمٍ قائمٍ في الخلق، فتراه يبرز عنه من سوء الخُلُق العجائب، فإذا رأيت مثل ذلك فاتهم نفسك بعدم العلم بأحكام التركيب الوجودي، والمزاج البشري، واسأل العالِمين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما حَسَّنَ اللهُ خَلْق امرئٍ وخُلُقه فيُطعِمَهُ النار).وعلى الغالب أيضاً فإذا كانت أشكال أعضاء المرء وتركيبها ومزاجها على غير ما ذكرناه، وضد لما قلناه، كانت أخلاقه سيئة، وقلبه سقيماً خسيساً، وكان مُنقاداً لهواه، أسيراً لبغيةِ نفسه.

أما الأخلاق الحسنة، فهي الذكاء، وصفاء الذهن، والتذكُّر الحسن، والشجاعة، والثبات، والحلم، والتحمُّل، والتواضع، والحَميّة، والرِقّة، والسخاء، والكرم، والإيثار، والمروءة، والعِفة، والحياء، والرِفق، والقناعة، والوَقار، والحرّية، والعدالة، والصدق، والصداقة، والأمانة، والأُلفة، والوفاء، والشفقة، والوقوف عند الحدود، وإنجاز الوعد، وعدم نقض العهد، وحسن القضاء، والرضا بالحق، والتنزُّه عن

أموالِ الناس، والترفُّع عن الغدر، والتباعد عن الحيلة والخديعة، والتودد إلى الناس، والتوبة، والخشية من الله، وخالص العبادة، والصبر والشكر، والخوف، والرجاء، والزهد، والتوكُّل، والرضاء من الله وعن الله، والمحبة الخالصة لله ولأهل الله، وقبض اللسان إلا في حِكمة أو وموعظة أو نصيحة أو ذِكر أو كلمة بِرٍّ وخير، ورعاية حقوق الجيران، وحفظ الوِدّ القديم، وحفظ ودّ الوالدين، وصِلة الرحِم الصوري، وإجلال الأساتذة، وحُرمة ذوي الهيئات والشيوخ، وإغاثة اللهفان، وصَون مقادير العلماء والصالحين، وصِلة الرحِم المعنويّ، وجبر خواطر المنكسرين، وإكرام الضيف، والصبر على المعسر، والتباعد عن الغرور والإعجاب، والرحمة بالمسلمين، والسمع والطاعة إلا في معصية الله، والإنسلاك في الجماعة أهل الحق، وهجر أهل البدعة والزَيغ، والبُعد كل البُعد عن أولي العقائد الفاسدة، وزُمَر الشَطْحِ والترهات، والحياء التام من الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ومن المخلوقين، ورفع الهِمّة عن الزور والبهتان، ولطف المعاشرة والرفق، ولين الكلمة، وبشر الوجه، وترك الخوض فيما لا يعني، ونصر المظلوم، والوقوف مع الحق بالحق، وحفظ غيبة أهل الكرامة، وصيانة أعراض المسلمين من خدش أرباب الفرية، وزُمَرِ السوء، والبُهتان، والشفقة على خلق الله تعالى كلهم على اختلاف الأجناس والمشارب والمذاهب، والقناعة، وعلوِّ الهِمّة، والتعالي على البطالة، وإنزال الناس منازِلِهم، ودوام الذكر، والتشرُّف دائماً بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر الموت، واستحقار المستعارات إذا أطغت، وحسن النية للناس، والفطنة في شؤون الخَلْق، وعدم التَمَلُّق، وترك ما يُعَدُّ من العبث، والترفع عن اللهو واللعب، والأخذ في القول والعمل بما يعني وترك الغِلظة، والتباعد عن المداهنة، واستكمال كل الأعمال بالإخلاص الخالص، لتكون الأعمال والأقوال
والأفعال كلها لله تعالى.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (بُعثت لأتمِّمَ مكارِمَ الأخلاق)، وقال عليه الصلاة والسلام (إن حُسْنَ الخُلُقِ يُذيبُ الخطيئةَ كما تذيب الشمسُ الجليد)، وقال زاده الله شرفاً وتعظيما (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم أخلاقا)، وقال أرواحُنا لشريف جنابِهِ العظيم الفداء (أثقلُ ما يوضَع في الميزان الخُلُق الحَسَن)، وقال صلى الله عليه وسلم (والذي نفسي بيده، لا يدخل الجنة إلا حَسَنُ الأخلاق)، وقال عليه أفضل صلوات الله وأجلّ تسليماته (إن أحبكم إليَّ وأقربكم منّي مجلساً يوم القيامة أحسنُكُم أخلاقا).قلتُ: وقد غصَّت الدفاترُ وصحفُ المؤرخين ورجال الطبقات من الفقهاء والمحَدِّثينَ والصوفية وأهل النظر بذكر محاسن أخلاق سيدنا الإمام (السيد أحمد الكبير الرفاعي الحسيني) رضي الله تعالى عنه وعنّا به، وصار الأمر غنيّاً عن البيان لتواتُرِهِ في طبقاتِ الأمّة على ألسُنِ الرجال وأفراد هذه الملة السعيدة في العرب والعجم.
فمن أراد أن يقتدي بنبيِّهِ، وأن يتبع أثره في أخلاقه الطاهرة الكريمة، فليتمسَّك كًلَّ التمسُّك بسيرة (السيد أحمد الرفاعي) رضي الله عنه، وليتخلَّق بأخلاقِهِ، ولينهج طريقته، ويندرِج في سِلك أتباعِهِ وأشياعِه رضي الله تعالى عنه وعنهم، فإنهم أحيّوا السُنّة، وأماتوا البِدعة، وما عليك إذا أنكر الأكمَه الألوان، وجحِد الجبانُ الكَرَّ والطعان، ورحم الله الأستاذ العارف السيد محمد العلمي المقدسي طاب ثراه فإنه قال:
الأحمديّونَ للإسلامِ أركانُ
شادوا الطريقَ ودينَ المصطفى صانوا
إذا طغى الدهرُ أو جارت نوائبُهُ
فالأحمديّون ذُخري أينما كانوا

وأما الأخلاقُ السيئة، فهي عكس ما ذكرناه من الأخلاق الحسنة، فمن الأخلاق السيئة، البلادة وقساوة القلب، وخلف الوعد، والكذب، والغيبة، والنميمة، وقول الزور، والبُهتان، والخوض بأعراض الناس، والحسد، والحقد، وقلة الرحمة، والجُبن، والبُخل، والعَجَلة، والطَيش، والوقاحة، وهي قلة الحياء، وطلب العلوِّ على الناس، والرياء، والكِبر، والدعوى العريضة، والعجب، والغضب، وعدم الرضا عن الناس، وسوء الظن، والبغضاء، وكثرة اللغط، والحرص، والطمع، والشره على الدنيا، وحب الأكل الكثير، والكلام الكثير فيما لا يعني، والاشتغال عن عيوب النفس بعيوب الناس، والمناكدة، وشقَّ العصا، والإزدلاف عن طاعة وليِّ الأمر، والتزيُّن للناس، والأمن من مكرِ الله تعالى، والإتكال على العبادة . وليقابل اللبيبُ ممّا ذكرناه من محاسن الأخلاق، كل صِفة بضِدِها، فالضدُّ من الأخلاقِ السيئة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن العبد ليبلغ من سوء خُلُقِهِ أسفل درك جهنّم).
ولتعلم أيها المُحب، أن الأخلاقَ الحسنة والسيئة قد تكون خِلقيّة، وقد تكون كسبيّة، أما دليلُ كونِها خِلقية، فالتجربة، قال صلى الله عليه وسلم (إن الله خلق آدمَ من قبضةٍ قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، فمنهم الأحمرُ والأبيضُ والأسودُ وبين ذلك، والسهلُ والحَزَن، والخبيثُ والطيِّب)، فهذا دليلٌ قاطعٌ على أنّ من المخلوقين مَن يُخلَقُ طيِّباً، ومنهم من يُخلَق خبيثا، يؤيد ذلك قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم (ما جَبَلَ اللهُ وليّاً إلا على السخاء وحُسن الخُلُق).وأما دليل كونِ بعضِ الأخلاق كسبيّة، فالتجربة، ألا ترى أنّ الكافر يصيرُ مؤمناً، والمؤمنُ يصيرُ كافراً، والفاسقُ صالحاً، والصالحُ فاسقاً، والبخيلُ

سخيّاً، والسخيُّ بخيلا، وسبب ذلك المخالطةُ والإكتساب ، فمخالطة أولي الأخلاقِ الشريفةِ والإكتساب منهم والإقتداء بهم في أفعالهم وأقوالهم، وصحبتهم تجعلُ الخُلُق السيئ حسنا والعكس بالعكس.
وليعلم أنّ الأخلاقَ حسنةً كانت أو سيئة، خِلقيّة كانت أو كسبيّة، قد تكون قويّة بحيث لا يقدِرُ صاحِبُها على تطهير نفسِهِ منها، وقد تكون قويّةً في النفس جداً فلا يقدر على إزالتها إلا بالمجاهدة، وقد تكون ضعيفة فيقدر المرء على إزالتها بالمجاهدة واستبدالها بأضدادها، يؤيد ذلك ما جاء في الخبر (العلم بالتعلُّم، والحُلم بالتحلُّم)، فالتعلُّم صيَّرَ الجهلَ عِلما، والتحلُّم صيَّر الطيشَ حلما.
فإذا كانت قويةً، وما قدر المرء على إزالتها، أعني الأخلاق السيئة بالمجاهدة ، يمكن أن يأتي بأضدادها بالمجاهدة والمخالطة والتعلُّم والتخلُّق، فتضعف قوّتُها، فهي مع بقاء أثرها في النفس تكون مضمحِلّة، لا حُكم لها، وهذه بركة الإندراج بصحبةِ الصالحين، والتمسُّك بهَدْيِهِم والعملُ بأعمالِهِم، والله سبحانه المُعين
.


عدل سابقا من قبل الهدهد السليماني في الأربعاء يناير 04, 2012 3:03 am عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
الهدهد السليماني
الاداره
الاداره
الهدهد السليماني


عدد المساهمات : 1979
نقاط : 16629
التفاعل مع الاعضاء : 35
تاريخ التسجيل : 05/11/2010

مراحل السالكين Empty
مُساهمةموضوع: رد: مراحل السالكين   مراحل السالكين Emptyالثلاثاء يناير 03, 2012 2:27 pm

مرحلة العلم الذي طَلَبُهُ فريضةٌ على كل مُسلمٍ ومسلمة

قد افتُرِض على كل مسلم ومسلمة تحصيل علم طريق الآخرة، وهي محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والخوف من الله سبحانه، ورجاء رحمته، والإيمان بكون المرء مكلفا بهذه الأحكام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة)، وقال عليه الصلاة والسلام (اطلبوا العلم ولو في الصين).وذلك العلم الذي افتُرِض هو العلم بأمر الدين، ليعرف العبد ما بينه وبين ربه من المعاملة في أمر دنياه وأمر آخرته، فيقوم بأحكام الله الواجبة عليه، ويخلص لربه في العمل، ويعرف آفات النفس ووساوسها، ومكائد الشيطان

وخدعه وغروره ومكره، وما يُصلح من الأعمالَ ويُفسدها، ويعرف حال القلب والنفس والخواطر وأسرارها، لأن الخواطر رُسُل الله عز وجل إلى العبد، وهي النية التي هي أول كل عمل، وعنها تظهر الأفعال، وبحكمها تقوم الأعمال، وتنسج على ذلك المنوال.
ولذلك يجب التفريق بين لَمّة الملك ولَمّة الشيطان، وبين خاطر الروح ووسوسة النفس، وبين علم اليقين وقوادح العقل، ليميز بذلك المرء بين أحكام الخواطر والوساوس، واللمّتين المذكورتين، وبين العلم اليقين وقوادح العقل.
ولا بدع، فطاعة الله تعالى، وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرضٌ على كل مسلم ومسلمة، فإذن العلم الذي يقيم العبد في طاعة الله وطاعة رسوله عليه الصلاة والسلام، هو فرضٌ لا محالة، ومنه علم الفرائض والسُنَن، والحلال والحرام، وهذا العلم الجامع لهذه الدقائق الشريفة التي ذكرناها يسمى فِقهاً وشريعة وديناً وحكمةً وصراطاً مستقيماً وسُنّة، ويُسمى علم طريق الآخرة.
ومتى صحّت للعبد الطاعة لله تعالى، ولرسوله صلى الله عليه وسلم على قانون العلم الإلهي المحمدي، فقد صح له الجهاد في الله، وثبتت له الهداية بشاهد قوله تعالى (والذين جاهدوا فينا لنهدينَّهم سبلنا)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من عمل بما يعلم ورَّثَه الله علم ما لم يعلم).فببركة الطاعة الخالصة المطابقة لأمر الله تعالى، ولأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، يُفاضُ العلمُ اللَدُنِّيّ للعبد، ويورثه الله من العلوم الربانية ما لم يكن يعلم، قال اللهُ تعالى (واتقوا الله ويعلِّمكم الله).ولهذا السِرُّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (تعلموا اليقين وإني متعلم معكم)، واليقين أي بذات الله تعالى وصفاته، بحيث يفتح بالطاعة الخالصة

كنوز حقائق الملكوت، ومجموع هذه النعوت التي نعتنا بها هذا العلم إذا اجتمعت وصارت جملة أو كلمة فقل: هي علم التصوف الذي هو علم طريق الآخرة، وهو الذي فصلناه، ومعراجه الزهد والإخلاص.
قال صلى الله عليه وسلم (من زهد في الدنيا أدخل الله قلبه الحكمة) الحديث، وفي الخبر (من أخلص لله أربعين صباحا، تفجّرت ينابيع الحكمة من قلبه، وجرت على لسانه)، ومن أخلص لتتفجر، لم تتفجر.
فإذا تحلّى القلب بالزهد والإخلاص، عرجت الهمة إلى حظيرة القرب، وانكشفت للسِرِّ الحُجُب، وعُدَّ العبد في العلماء أهل القبول الذين يحبهم أهل السماء.

فمن هذه الإيضاحات اللطيفة، يظهر لك أيها المحب أنه لا فرق بين علم الظاهر وعلم الباطن، إذ علم الباطن نتيجة علم الظاهر، وكلاهما واحد، فعلم الباطن صدق حال القلب بالعمل، وعلم الظاهر علم الأحكام الذي يرتضي الله العمل بها . وبعد فهم الأحكام كما شرع سيد الأنام صلى الله عليه وسلم، والعمل بها بالإخلاص الخالص والحال المحمدي، فلا حاجة في أمر الآخرة وشؤون القلب إلى علمٍ أو فن آخر، بل يكون ذلك الرجل الجامع بين العلم بالأحكام والعمل مخلصا بها من العلماء الذين هم ورثة الأنبياء المعنيين بقوله عليه الصلاة والسلام (العلماء ورثة الأنبياء، يحبهم أهل السماء، وتستغفر لهم الحيتان في البحر إلى يوم القيامة).ولا يكمل لنا الإرث لساداتنا الأنبياء صلوات الله عليه وتسليماته عليهم إلا ببثِّ هذا العلم المبارك في الأُمة، وتعليمه الناس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (على خلفائي رحمة الله)، قيل: من خلفاؤك؟ قال (الذين يحيون سُنّتي

ويعلِّمونها عباد الله)
، وقال عليه الصلاة والسلام (من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليحيي به الإسلام، فبينه وبين الأنبياء درجة واحدة في الجنة)، وقال صلى الله عليه وسلم (فضل العالم على العابد كفضلي على أدنى رجل من أصحابي)، وقال عليه أفضل الصلاة وأتمّ السلام (لا حسد إلا في اثنتين، رجلٌ آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويُعلِّمها الناس، ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفق منه سِرَّاً وجَهرا).وهذا الحسد المعنيّ بهذا الحديث الشريف هو الغبطة، لا الحسد المطلق، فإن الغبطة إرادة الخير للمغبوط وإرادة مثله للنفس، والحسد إرادة زوال نعمة المحسود والعياذ بالله تعالى، وذلك خُلُق إبليس قبحه الله، فليحفظ.

ولا بدع، فالعُلماء أُمَناء الرُسُل، لكن إذا حفظوا عهودهم، وصانوا ذمتهم، ووقفوا مع الحق، قال صلى الله عليه وسلم (العُلَماءُ أُمَناءُ الرُسُل على عباد الله ما لم يخالطوا السلطان، فإذا فعلوا ذلك فقد خانوا الرسل فاحذروهم واعتزلوهم).والمخالطةُ ليست بمجرد المُعارَفة والمُقارَبة، إنما هي بالموافقة على ما لم يكن من شرائع المُرسَلين عليهم الصلاة والسلام، بل هو مجرد غلبة قاهرة وهي السلطة.
واختلف أهل النظر في هذه النكتة، فقالوا: مقاربة السلطان تجب على العلماء الذين يقولون الحق، ويخلصون له النصيحة، ويبيِّنون له حُكم الكتاب، وحِكمة السُنّة المُحمدية، ويُذكِّرونه بالآخرة، ويشفعون لديه الشفاعة الحسنة، فينفعون الصالحين والأخيار وذوي الشرف وأهل الحق، ويكفون عنه وعن المسلمين شرور أهل البغي والفساد، وأرباب المكر والخديعة والإلحاد، وقد عُدَّ مثل أولئك على لسان النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم بأنهم من الأبدال.
كتب عمر بن عبد العزيز طيَّب الله مرقده، وعَمَّه برضوانه ورحمته في

أيام خلافته إلى الإمام الحسن البصري رضي الله عنه: أما بعد، فأشِرْ عليَّ بقومٍ أستعينُ بهم على أمر الله عزَّ وجل، فكتب إليه: أما أهل الآخرة فلن يريدوك، وأما أهل الدنيا فلن تريدهم، ولكن عليك بالأشراف فإنهم يصونون شرفَهم عن أن يدنسوه بالخيانة.
وفي كلام الحسن البصري نوَّرَ اللهُ ضريحَهُ نكتة، وتلك أن أبناء الآخرة الصُرَّف الذين لا حظَّ لهم من عِلم الدنيا لا يريدون القُرب من الملوك لعجزهم عن القيام بالحقوق التي تجب عليهم من النصيحة لأئمتهم، والوقاية لهم من خِدَعِ أهل الطمع والشرَه على الدنيا، والصيانة لشؤونهم ولشؤون الأُمة، وأما أبناء الدنيا الصُرَّف، فالملك الصالح سيَّما عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأضرابه، فهم لا يريدونهم البتة، ولكن الذين يُرادون من قِبَل الملوك الصالحين ويجب عليهم القُرب منهم فأولئك الجامعون بين الأمرَين، رجال الدنيا ورجال الآخرة، وهم الرجال الكُمَّل الذين أشار إليهم النص النبوي بلفظ (ليس الرجل رجل الدنيا أو رجل الآخرة، بل الرجل رجلهما).وقد حثَّ الإمام الحسن على اصطناع الرجال الأشراف أهل المروءات، الذين يقدِّمون غنيمة الشرف والمجد على غنيمة المال، وإلا فلو كان النهي مطلقاً لتعطلت أحكامُ الشريعة، ولسقط حكم الأمر بالنصيحة التي أمرَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبذُلها لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين ولعامتهم.
وعلامة العالم الناصح المتحلي بحكم هذه الحكمة النبوية، أن تكثر حسَّاده وأعداؤه من أهل الباطل وكلاب الدنيا، قال الثوري رضي الله عنه: إذا رأيت العالِم كثير الأصدقاء، فاعلم أنه مخلط، وإذا رأيت الرجل محبَّباً إلى إخوانه، محموداً في جيرانه فاعلم أنه مُراء.

قال سهلٌ رضي الله عنه: العلم كله دنيا إلا العمل به، والعمل هباء إلا الإخلاص، والناس موتى إلا العلماء، والعلماء سكارى غير العاملين، والعاملون مغرورون إلا المخلصين، والمخلص على وجلٍ حتى يُختَم له بخير، وتلا قول الله تعالى (إنما يخشى اللهَ من عباده العلماء).
وقال شيخ مشايخ الإسلام مولانا (السيد أحمد الرفاعي) رضي الله عنه وعنّا به: خمسٌ من علامات علماء الآخرة، الخشية من الله، والخشوع لله، والتواضع، وحُسن الخُلُق، والزُهد الذي يتحكم في القلب، وهو الذي لا يضره إقبالُ الدنيا بحذافيرها على المرء، فإن زاهد القلب لا تطيب نفسه بهذه المُستعارات، ولا تستفِزّه طقطقةُ النعالِ خلفه، قال تعالى في حق قارون (فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياةَ الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظٍّ عظيم * وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا).فعلماء الآخرة مع تقلُّب الدنيا في أيديهم لا تهشُّ إليها نفوسُهُم، ولا تميلُ إليها قلوبُهم، وهمُّهم الدلالةُ على الله والدعوةُ إليه، وأولئك هم ورثةُ الأنبياءِ حقا، قال تعالى (ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى اللهِ وعمل صالحا).وقد نبّه القرآنُ العظيمُ بأمرِ الله الحكيم العليم، رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ودلَّهُ على طريق الدعوة إليه سبحانه بنص (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) (النحل- 125 )، وأنبأه عليه الصلاةُ والسلام كتابَ الله، والله سبحانه أصدقُ القائلين، بأن من اتبعه صلى الله عليه وسلم يكون من الداعين إلى الله على بصيرةٍ بنص (قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي )(يوسف-108).
ولسِرِّ هذه الحكمة المنصوصة، كان الأئمة من علماء الظاهر إذا أشكلت عليهم مسألة اختلفت فيها الأدِلّة، سألوا أهل العلم بالله تعالى الذين صحت لهم مَزِيّة

الاتباع الكامل للنبي الأكمل الأكرم صلى الله عليه وسلم، فوعوا أسرارَ أقوالِهِ، وعملوا بجليل أعماله، وتحلّوا بشريف أحواله، وما زالوا قيض شعرة عن منواله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وخدامه وأشياعه.
وقد كان إمامُنا الشافعي والإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنهما يجلس الواحد منهما بين يدي شَيبان الراعي كما يجلس الصبي بين يدي المعلم ويسأله عما يشكل عليه، فقيل له: مثلك في علمك وفقهك وشرفك يسأل هذا البدوي؟ فيقول: إنه وفق لما لم نُحِط به علما.
وكان يحيى بن معين والإمام الجليل أحمد بن حنبل يختلفان إلى الشيخ معروف الكرخي فيسألانه، ولم يكن يحسن من العلم ما يحسنانه، فقيل لهما في ذلك فقالا: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! كيف نصنع إذا جاءنا أمر لم نجده في كتاب الله ولا في سنة رسول الله؟ فقال (سلوا الصالحين)، وفي روايةٍ أخرى (سلوا الصالحين واجعلوه شورى بينهم، ولا تقضوا فيه أمراً دونهم)، انتهى كلام شيخ مشايخنا، إمام الكل في الكل (السيد أحمد الرفاعي) رضي الله عنه وعنّا به.

وقال (سيدنا الإمام الرفاعي) نفعنا الله والمسلمين بعلومه في بعض مجالسه الشريفة: كلُّ علمٍ من العلوم قد يتأتى حفظه ونشره لمنافقٍ ومبتدعٍ ومُشرك إذا رغب فيه وحرص عليه، لأنه نتيجة الذهن وثمرة العقل، إلا علم الإيمان واليقين وما ينتج عنهما، فإنه لا يتأتى ظهور مشاهدة ذلك، والكلام في حقائقه إلا لمؤمنٍ مُوقنٍ تقي، لأن ذلك ثمرة الإيمان النيِّر، وهو من آيات الله وعهده، وآيات الله تعالى لا تكون للفاجرين، ولا ينال عهده الظالمون.
فالعلم بالله تعالى والإيمان به قرينان لا يفترقان، وبمقدار العلم بالله يكون

الإيمان به ففي الخبر (الإيمان عريانٌ ولباسُهُ التقوى، وزينتُهُ الحياء وثمرَتُهُ العلم)، انتهى كلامه العالي.
فتدبر أيها المحب أسرارَ هذا الكلام، وزيِّن إيمانَك بالحياء، وألبِسْهُ دِرع التقوى، لينتج لك العلم بالله، فتكون من عباد الله المُقرَّبين، ومن أحبابه الموفَقين، وأوليائه المقبولين، الذين (لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون).
ولا يكمل لك هذا الشأن إلا بخدمة أهله الذين ساروا ووصلوا وعلموا وعملوا.

ولا بدع، فعلماء طريق الآخرة طائفتان، طائفةٌ علمت علم الأحكام وعملت به، ولم يحصل لها كمال التحلي بحال النبي صلى الله عليه وسلم، فسبغت ظواهرهم بحكم العلم، ولم تسبغ بواطنهم بحكمته، فلم تفتح أقفال قلوبهم فقيل لهم علماء الظاهر، والأخرى علمت علم الأحكام وعملت به وتحلت بحال المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم السلام، ففتحت لهم خزائن القلوب، وبها عرفوا حقائق الملك والملكوت، لأن بواطنهم سبغت بنور الحال المحمدي، فقيل لهم علماء الباطن.
وكلهم في الحقيقة قافلةٌ ، واحدةٌ سبقت واحدةً في الطريق المحمدي، فوصلت، والأخرى على الطريق، ولا فرق بينهما إذ الطريقة المطروقة، وما هي إلا طريقة النبي صلى الله عليه وسلم، وسُلاّكُها ورّاث الصحابةِ الكرام، فالسابقون السابقون، أولئك المقربون، وما أبو بكر بفضله وعلمه، وعُمر بعقله وعدله، وعثمان بحيائه وسخائه، وعلي باستجماعه الفضائلَ والمناقب، وارتقائه إلى شوامخ المراتب ، كراعٍ من الصحابة رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع منه، وأخذ عنه، شتّان بين العلمين، شتّان بين الفهمين، شتّان بين المنزلتين، ولكن

كلُّهم في ساحةِ الصُحْبَةِ واحد، هذا نقول فيه صاحب رسول الله، والآخر نقول فيه كذلك، ولكل منهم مقامٌ معلوم، رضي الله عنهم أجمعين.
وللطائفتين المذكورتين شأنٌ كريم، وحالٌ عظيم، فالسارية بعد الواصلة يُرجى لها الوصولُ إن شاء الله، غير أن الواصلة هي التي يُطلق على حزبها المبارك نعت أولي الألباب، قال تعالى (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191))(آل عمران).

ولا ريب، فالطائفةُ الثالثة التي تعلَّمت العلمَ لغير الله، وانصرفت هِمَمُها إلى الدنيا، فهُم علماءُ السوء، قال فيهم تعالى (إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمناً قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يُكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذابٌ أليم * أولئك الذين اشتروا الضلالةَ بالهُدى والعذابَ بالمغفرة فما أصبَرَهُم على النار)، وقال رسول الله صلى الله عليهم وسلم (العُلماءُ أُمَناءُ الرُسُل ما لم يدخلوا في الدنيا، فإذا دخلوا في الدنيا فاحذروهم على دينكم)، وقال عليه الصلاة والسلام (من ازداد عِلماً ولم يزدد هدى، لم يزدد من الله إلا بُعدا)، وقال صلى الله عليه وسلم (هلاك أمتي عالمٌ فاجر، وعابدٌ جاهل، وشر الشِرار شِرار العلماء، وخير الخِيار خيارُ العُلماء).وليُعلم أن علماء الدنيا هم الطالبون لها بالعلم ، الآكلون لها بالدين المتخذون الأخِلاّء والأصدقاء مِن أبنائها المُكَرِّمون المحبون لهم الُقبلون عليهم بالبِشر والبَشاشة، المُعرِضون عن الحق وأهله، المتباعدون عن الصالحين.

والعلماءُ بالله هم الزاهدة قلوبهم في الدنيا المستصغرون لها، الراغبون عن أهلها

المُحِبون للصالحين وأهل الحق، الذاكرون لله الناصحون للخَلْق، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تجلسوا عند كل عالِمٍ إلا كل عالم يدعوكم من خمس إلى خمس، من الشك إلى اليقين، ومن الرياء إلى الإخلاص، ومن الرغبة إلى الزهد، ومن الكِبْرِ إلى التواضع، ومن العداوة إلى النصيحة.
ولمّا دخل البصرةَ سيدُنا أمير المؤمنين إمام الدين علي المرتضى، كرم الله وجهه ورضي الله عنه، بعد أن استقام له الأمر، دخل جامعها فأخرج القصّاص، حتى انتهى إلى حلقة الحسن البصري رضي الله عنه، وهو يومئذٍ شاب، فاستمع إليه وهو يتكلم على الناس، فأعجبه كلامَه فقال: يا فتى! أسألك عن شيئين، فإن أجبت تركتُكَ تتكلّمُ على الناس، وإلا أخرجتك كما أخرجت أصحابك، فقال: سل يا أمير المؤمنين، فقال: أخبرني ما صلاح الدين وما فساده؟ قال: صلاحه الورع، وفساده الطمع، قال: صدقت، تكلم، فمثلك يصلح أن يتكلم على الناس.

(تنبيه) لم يكن بالعالِم من كان عالِماً بعِلم غيره، وحافظاً لفقه سواه، بل مِثلُهُ يُقال له راوية، وواعياً، وحاملاً، وناقلاً، قال أبو حازم: ذهب العلماءُ وبقيت الأوعية. وكان الزهري رحمه الله تعالى يقول: حدّثني فُلان، وكان وِعاءاً للعلم، وتارةً يقول: وكان من أوعية العلم، ولا يقول: وكان عالماً، وهذا من مضمون قول النبي صلى الله عليه وسلم (رُبَّ حامل فقهٍ غيرُ فقيه)، وفي روايةٍ أخرى (رُبَّ حامل فقهٍ إلى من هو أفقه منه).
فإنما كان العالِم عندهم، الغني بعلمه لا بعلم غيره، والفقيه عندهم هو الفقيه بفقه علمه وقلبه لا بحديث سواه. روى كعب الأحبار ومثله روى ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين عن الإمام المرتضى سيدنا علي كرم الله وجهه ورضي الله عنه أنه قال: أنّه يكون في آخر الزمان علماء يُزَهِّدون الناسَ

في الدنيا ولا يَزهَدون، ويُخوِّفون ولا يخافون، وينهون عن غشيان الولاة ولا ينتهون، يؤثرون الدنيا على الآخرة، ويأكلون الدنيا بألسنتهم أكلا، يقرِّبون الأغنياء، ويُبعدون الفقراء، يتغايرون على العلم كما يتغاير النساء على الرجال، يغضب أحدهم على جليسه إذا جالس غيره، ذلك حظهم من العلم. وقال حُذيفة رضي الله عنه: إن معروفكم اليوم مُنكَر زمان قد مضى، وإن مُنكَرَكم اليوم معروف زمان يأتي، وإنكم لن تزالوا بخير ما عرفتم الحق، وكان العلم فيكم غير مستخف. وقال أيضا: يأتي زمان يكون العالِم بينهم كالحمار الميت لا يلتفتون إليه، يُستخف المؤمن فيه كما يستخف المنافق فينا اليوم، ويكون المؤمن يومئذٍ أذل من الأَمَة.
فتدبَّرْ أيها اللبيب، ترى أن ذُل الأُمَّة يكون من الاستخفاف بالعلماء، وذُل العلماء يكون من استخفاف بالعلم، وعلى كل حال، فعلى الأمة ضربة لازب إجلال العلماء لأنهم أوعية شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم العالِمون بها. جاء في الخبر (يأتي على الناس زمانٌ مَن عرف فيه الحق نجا)، قيل: فأين العمل؟ قال (لا عمل يومئذ لا ينجو فيه إلا من هرب بدينه من شاهق إلى شاهق).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: يأتي على الناس زمانٌ مَن عمل منهم بعُشْرِ ما أُمر به نجا، وفي لفظ، بعُشْرِ ما يعلم نجا. وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: إنكم لن تزالوا بخير ما أحببتم خياركم، وقيل فيكم الحق فعُرف، وويلٌ لكم إذا كان العالِم كالشاة النطيح.
وقد سُئل شيخ مشايخ الإسلام مولانا السيد (أحمد الرفاعي) رضي الله عنه عن لُباب العلم وشرائف نتائجه فلخَّصَها بجوابه للسائل فقال: يا مبارك! قال تعالى (شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ )(آل عمران) ، (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85))(آل عمران)، فوحِّد الله بعِلمك، وكن مُسلِماً بيقينك، تُحسب في عِداد العلماء، وبشِّر بالجنة الذين باعوا أنفسَهم لله قائمين بالقِسط، لا يظلمون، ولا يطغون، ولا عن طريقة النبي صلى الله عليه وسلم ينحرفون، ولله يغضبون ويرضون، ولعباد الله يرحمون، ومع الحق لا مع الغرض يقفون، واعلم! أن كل شئٍ هالكٌ إلا وجهه، يُهلِكُ مَن عصاه، ويمحق من أيس من رحمته، ويمُنُّ على من أطاعه وأحسن الظن به، ومن عرف الله فأطاعه نجا، ومن عرف الشيطان فعصاه سلم، ومن عرف الدنيا فزهدها قلبه طابت عيشته وحسنت عاقبته، ومن عرف الحق فاتَّبعه فاز، ومن عرف الباطل فاجتنبه أمِن، ومن عرف الآخرة فطلبها سعِد، ومن غرَّتهُ الدنيا ندِم في عُقباه، ومن هذَّب نفسه برأيه غلط، ومن هذَّبها بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم هُدي إلى الصواب، وكان من الآمنين يوم الحساب. والعلم كل العلم، الأخذ بما أتى به الرسول، والانتهاء عما نهى عنه، وأدبُ العِلمِ الشفقةُ على خَلْقِ الله كلهم، وإرادة الخير لهم، والصبر في الله، والرضا من الله، والشكر لله، والرجوع في جميع المآرب والمقاصد إلى الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. انتهى كلامه العالي، وفيه كل ما يبتغيه العالِم والعاقل.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
الهدهد السليماني
الاداره
الاداره
الهدهد السليماني


عدد المساهمات : 1979
نقاط : 16629
التفاعل مع الاعضاء : 35
تاريخ التسجيل : 05/11/2010

مراحل السالكين Empty
مُساهمةموضوع: رد: مراحل السالكين   مراحل السالكين Emptyالأربعاء يناير 04, 2012 3:24 am

[color=blue]مرحلة الخوف من الله

قال الله تعالى (يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون)، وقال سبحانه (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمة الله قريب من المحسنين)، وقال تعالى (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى)، وقال عليه الصلاة والسلام (من خاف اللهَ خافَه كلُّ شئ، ومن لم يخف الله خوَّفه الله تعالى من كل شئ)، وفي الآثار الشريفة (رأس الحكمة

مخافة الله)
، وقال عليه الصلاة والسلام (قال الله تعالى: وعِزَّتي وجلالي لا أجمع على عبدي خوفين ولا أجمع له أمنين، فإذا أمِنَني في الدنيا أخفته يوم القيامة، وإذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة).وقال الشيخ الإمام (السيد أحمد الرفاعي) رضي الله عنه: الخوف سوط الله، يقوِّم به نفساً تعوَّدت سوء الأدب. ثم قال: فالعاقل يخاف قبل أن يخاف، ويتأدب قبل أن يؤدَب، فلن يحرق شهوات النفس ويزيل آثار آفاتها إلا الخوف.وقال العارف بالله ذو النون المصري رضي الله عنه: لا يُسقى المحب كأس المحبة إلا من بعد أن ينضج قلبه بالخوف.
والخائفون على أقسام، منهم من يخاف منه تعالى على دنياه، ومنهم مَن يخاف منه لأجل آخرته، ومنهم مَن يخاف لمعرفته بعظمته سبحانه وقدرته وكبريائه وجماله وجلاله وسائر صفاته. وهذه أشرف الأقسام؛ قال تعالى (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء)(فاطر28)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أنا أخْوَفُكُم لله تعالى)، وقال شيخ وقته سهل أبو محمد التستري رضي الله عنه: المريد يخاف أن يبتلى بالمعاصي، والعارف يخاف أن يبتلى بالقطع، وذلك لعلمه بسرعة تقلب القلب.قلت: قال أنس رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكثر أن يقول (يا مُقلِّب القلوب، ثبت قلبي على دينك)، فقلت: يا نبي الله! آمنا بك وبما جئت به، فهل يُخاف علينا؟ قال (نعم، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله تعالى يقلبها كيف يشاء)، وهذا من قبيل تمثيل المعاني بالصور، فتدبر، والمعنى أن القلوب بين إصبعي القضاء والقدر.

ومن أقسام الخوف الشريفة الكاملة، خوف الصِدِّيقين، وفيه محاسبة

النفس على كل نفَس، ومراقبة الرقيب في كل وقت، والورع عن الإقدام على الشُبُهات من كل شئ، ومن أهمها الخوض بالعلوم بغير يقين، والعمل بغير فقه، وسجن اللسان من أن يُدخِل في دين الله ما لم يذكره تعالى لنبيه في كتابه، ولم يشرعه رسوله الأعظم صلى الله عليه وسلم، ولم ينطق به خزائن الشرع الأئمة من السلف رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.
ومنها الخوف على الإيمان، قال يحيى الرازي قدس الله روحه: إن الخوف على الإيمان علامة الغبطة بدوام وجوده، وإن الذين يُخشى عليهم، والعياذ بالله تعالى من سوء الخاتمة

ثلاث طوائف: الأولى:
- أهل البدع والزيغ في الدين، الذين يُحدِثون في دين الله من الأقوال والأفعال ما لم يكن منه.

والثانية:

- أهل الدعوى، الذين يرون أنفسهم وأعمالهم، ويظنون الخيرية على الخلق بأعمالهم.

والثالثة:
- المتجاهرون بالفسق والفجور واتباع الهوى وطاعة الشيطان، الذين يرون أتباع الشيطان أحب إليهم من أتباع كتاب الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.


ومن أقسام الخوفِ:

الخوفُ من قسوة القلب وغفلته، فإن القلب إذا طمَّته القسوة والغفلة قاد صاحبه إلى ظلم العباد، واحتقار الباقيات الصالحات، والغرور بالفانيات، وأهان الحق، وأحب الباطل وأصحابه، وعدا على الله تعالى وآياته وكلماته، وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد ترى البعض يبكون وقلوبهم أقسى من الحجارة، فإذا بكت العين وقسا القلب، دلَّ ذلك على النفاق، ومتى رأيت العبد لا يزيده بكاؤه إلا كِبراً وعجباً وظُلماً وقسوةً وغفلة ورغبةً في الدنيا، فاعلم أن بكاءَه كان تصنُعاً وزورا.
وجاء في الخبر في أن بكاء عثمان في ساقيه، يعني أنه طويل القيام، كثير التهجد والتلاوة في الليل، وجاء في عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه أنه إن لم

تبكِ عيناه فقد بكى قلبه، وإذا جمع المرءُ بين بكاء العين وخشوع القلب وذلة السر وخضوعه لله تعالى فقد استكمل الحال المحمدي الأتم، قال تعالى (ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا).وأهل الكمال المحمدي مع خشوعهم وبكائهم في الله فهم أهل سكينة ووقار، وكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه كان أخوف الخلق كلهم من الله، وأشدهم حباً لله، ولم يكن في خشوعه كثير الإنزعاج والقلق، وإنما كان خاشعاً باكياً وقوراً، صلى الله عليه وسلم، وكان لِلَطافة طَوره، وعِزَّة حالِهِ، وجليل مشربِهِ مع الإعرابي كأنه إعرابي، ومع الصبي بمعناه؛ يتصابى له ويمازحه، ويرقُّ للضعفاء والنساء والعجزة والمساكين، يقارب الكل في علومهم، ويخاطبهم بعقولهم، ويظهر لهم من وَجده وحاله ما تحمله هممهم؛ ليعطيهم نصيبهم من فضله وذوقه والأنس به، أرواحنا لجنابه العظيم الفداء.
يُوَفيهم حقوق الأنس لكيلا تصدَّ قلوبهم عن العلم بحاله الكريم بجليل هيبته، فينقطعوا عن السؤال منه، والأخذ عنه، وكذلك الأنبياء إخوانه عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام، ووراءهم الصديقون والعارفون وأمناؤهم العلماء العاملون.

قال الشيخ مولانا (السيد أحمد الرفاعي) رضي الله عنه وعنّا به: من طالَبَ الخَلق بعِلمه، وخاطبهم بعقله فقد بخسهم حقوقَهم، ولم يقم بحق الله فيهم، وكان يحيى بن معاذ رضي الله عنه يقول: لا تُخرج أحداً من دربه، ولا تخاطبه بغير علمه فتتعب ولا ينتفع منك، ولكن اغرف له من نهره، واسقه بكأسه.قلت: وقد ترى أُناساً لضعفِ عقولِهم يأخذهم طارقُ خوفٍ فلا يقف

أحدهم معه بما يليق له، فيُجاوز الحدَّ في المجاهدة، ويفرط في الجوع والسهر والصوم، وكل ذلك مردودٌ وباطل. قال أنس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول (لا تُشدِّدوا على أنفسِكم فيُشدِّد الله عليكم، فإن قوماً شددوا على أنفسِهم فشُدِّدَ عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديار رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم).
وقال عروة رضي الله عنه: دَخَلَتْ امرأةُ عثمان بن مظعون على عائشة رضي الله عنها وهي باذّة الهيئة فسألتها: ما شأنك؟ فقالت: زوجي يقوم الليل، ويصوم النهار، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت عائشة ذلك له، فلقي رسول الله عثمان فقال (يا عثمان! إن الرهبانية لم تُكتَب عليها "أي على زوجته" فما لك فيّ أسوة؟ فوالله إن أخشاكم لله، وأحفظكم لحدوده لأَنا).
وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاقتصاد، وهو الحال الوسط، فقال عليه الصلاة والسلام (سدِّدوا وقاربوا، وعليكم بالقصد "أي الوسط من الأمور"، فإن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، ولا تبغض إلى نفسك عبادة الله)، أي لا تعمل مُتجاوزاً للحد فتضجر وتشمئز نفسك من عبادة الله، وهذه كانت سيرته صلى الله عليه وسلم في نفسه وآل بيته وسُنَّته في أصحابه رضي الله تعالى عنهم أجمعين.[/color]
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
الهدهد السليماني
الاداره
الاداره
الهدهد السليماني


عدد المساهمات : 1979
نقاط : 16629
التفاعل مع الاعضاء : 35
تاريخ التسجيل : 05/11/2010

مراحل السالكين Empty
مُساهمةموضوع: رد: مراحل السالكين   مراحل السالكين Emptyالأربعاء يناير 04, 2012 3:37 am

[size=24]مرحلة الرجاء

الرجاء من أعظم مراتب اليقين، قال الله تعالى (إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله)،
وقد فسر صلى الله عليه وسلم المُجاهد والمُهاجر فقال (المجاهدُ من جاهدَ نفسه في طاعة الله ، "أي ألزمَها طاعة الله ومنعها عن معصيته"، والمهاجرُ من هجر الخطايا والذنوب).

دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجلٍ في مرضِ موته فقال (كيف تجدك؟) فقال: أجدني أخافُ ذنوبي وأرجو رحمةَ ربي. فقال (ما اجتمعا في قلب عبدٍ في هذا الموطن إلا أعطاه الله ما رجا، وآمنه مما يخاف)، وأوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته فقال (لا يموتن أحدكم إلا وهو حَسَنُ الظنِّ بالله عز وجل)، وفي الحديث القدسي (أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء)، وقد كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يحلف بالله أن العبد لم يحسن الظن بالله إلا ويعطيه الله ما يريد؛ لأن الخير كله بيده، وإذا أعطي العبد حسن الظن، فقد أعطاه ما يظنه، لأنه هو الذي أعطاه حُسْنَ الظن به، وأراد أن يحقق له ظنه.

وقد سئل الإمام الأكبر مولانا (السيد أحمد الرفاعي) رضي الله عنه عن علامة الراجين فقال رضي الله عنه: دَلَّنا على ذلك القرآنُ العظيم، قال تعالى في كتابه العزيز (إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سِرَّاً وعلانيةً يرجون تجارةً لن تبور).ثم قال رضي الله عنه: الرجاء غير التمني، وهو، أي الرجاء، حُسْنُ الظن بعد صالح العمل، والتمنِّي إهمال العمل، والاغترار بالله تعالى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والأحمق من أتبَع نفسه هواها وتمنَّى على الله)، انتهى كلامه العالي واستدلاله الغالي.

ومن آداب الرجاء الذلُّ لله بصالحِ العمل، وعدم رؤية النفس، وحسن الظن به سبحانه والرجاء ممتزج بالدعاء امتزاج ماء الضياء بالعين، فإن الرجاء طلب الخير من الله تعالى بلسان السِرّ، والدعاء طلب الخير من الله باللسان الناطق، ولا يُجاب الداعي إلا إذا كان مُخلِصاً يدعو الله تعالى وهو موقنٌ بالإجابة، وهذا هو حسن الظن بالله جلت قدرته.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا دعَوتُم فكونوا مُوقنين بالإجابة، فإن الله تعالى لا يقبل إلا من مُوقن)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما مِن داعٍ دعا موقِناً بالإجابة في غير معصيةٍ أو قطيعةِ رحم، إلا أعطاهُ اللهُ إحدى ثلاث، إما أن يجيب دعوته فيما سأل، أو يصرف عنه من السوء مثلها، أو يدَّخِر له في الآخرة ما هو خير له).وقد قالوا: سُلَّم الرجاء، وباب الدعاء، التوبة الصالحة،
ولذلك فالرجاء والتوبة مرحلة واحدة في الطريق، قال الله تعالى (وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون)؛

أي لعلكم تنالون ما رجَوتموه من الفلاح، وسألتموه من الخير والنجاح، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (التائب حبيبُ الله، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له)، وإذا كان العبد حبيب ربه فلا ريبَ أن الله يُحسن إليه بالنجاح والفلاح.

والتوبةُ هي الرجوعُ عن الطريقِ المُبعِدِ عن الله تعالى إلى الطريق المقرِّبِ منه سبحانه، ومعناه الرجوع عن اتباع الهوى إلى اتباع كتاب الله وسُنِّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك أوضح طُرُقِ السالكين، ومفتاح السعادة للطالبين، وباب النجاح للمؤمنين.

وزاد التائب الاستغفار؛ فهو قوت السالك ومفزعه، قال تعالى (استغفروا ربكم ثم توبوا إليه)، وقال سبحانه (ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله تواباً رحيما)،
ولا يكون التائب مُحِقَّاً في توبته، صادقاً بها، إلا أن يمقت نفسه على ما كان منها من ظلمٍ و وِزْر، وأن يندم على ما مضى منه، وأن يتبع طريق من أناب، فيشتغل بتهذيب النفس وتزكيتها بالقول والخُلُق والعمل ليصلح ما أفسد، قال اللهُ تعالى (إنَّ الحسناتِ يُذهِبْنَ السيئات)، وأن يتدارك

وقتَه بالندم ودوام حُزن القلب ليكون مستيقظاً في شؤونه كلها، فيستبدل بحلاوة الغفلة حلاوة التنبه، وبحلاوة المعصية حلاوة الطاعة، وبحلاوة الكسل حلاوة العمل، وبحلاوة الإهمال حلاوة الذكر، وأن لا ينظر إلى صغر الخطيئة، بل ينظر إلى عظمة من عصاه سبحانه.
وعليه أن يخالط الذاكرين والصالحين، وأن يعظِّم العلماءَ وأهلَ الأحوال المباركة، ليكون له حصة من قالهم وحالهم، وأن لا يسُنَّ سُنَّة سيئة يُعمل بها من بعده فتكون وِزراً عليه، وأن يجهد أن يسُنَّ سُنَّةً حسنة ليعودَ أجرُها إليه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (مَن سَنَّ سُنَّةً سيئةً فعمل بها مَن بعده فإن عليه مثل وِزرِ مَن عمل بها لا ينقص من أوزارهم شئ)، وقال عليه الصلاة والسلام (من سَنَّ في الإسلام سُنَّةً حسنةً فله أجرُها وأجرُ من عمِل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شئ، ومن سَنَّ في الإسلام سُنَّةً سيئة كان عليه وِزرُها و وِزرُ مَن عمل بها مِن بعده مِن غير أن ينقص مِن أوزارِهم شئ.

وقال الحِبر الأعظم ترجمان القرآن سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: ويلٌ للعالِمِ من الأتباع، يزلُّ زلةً فيرجع عنها، ويحتملها الناس ويذهبون في الآفاق.

وقد شبّه العلماءُ زلةَ العالِم بانكسار السفينة تغرق ويغرق الخَلْقُ معها . وجاء في الأخبار، أن عالِماً في بني إسرائيل كان يضل الناس بالبدع ثم تاب وأصلح عمله، فأوحى الله إلى نبيهم: قل له: إن ذنبك لو كان فيما بيني وبينك لغفرته لك بالغاً ما بلغ، ولكن كيف بمن أضللتَ من عبادي فأدخلتهم النار؟
وليُعلَمَ أن التباعد عن السُنَن السيئة والإهتمام بالسُنَن الحسنة لا يكون إلا من كمال الخوف من الله تعالى، كما أن الجرأة على إحداث السُنَن السيئة

والإعراض عن السُنَن الحسنة من الغفلة عن الله سبحانه، قال اللهُ تعالى (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون)، أي من الذنوب التي تتوالى، الذنبُ على الذنبِ حتى تَسْوَدَّ القلوب، فلا تعرف معروفاً ولا تُنكِر مُنكرا، فيمرد أصحاب تلك القلوب على النفاق، ويسكن فيها وتطمئن به والعياذ بالله تعالى.

وأزلقَ الناسِ في هذه الوهَدَات زُمَرُ المُتشيِّخة من الفقهاء والصوفية الذين انبعثوا مع هفوات آرائهم، وأعجبتهم طقطقة النعال حولهم، وكثرة المعتقدين والطلاب، فوسوس لهم الشيطان وخدعهم فأحدثوا في المذاهب والطرق الشريفة ما لم يقل به السلف، يريدون بذلك زيادة استمالة الناس من العامة، وهاهم بين ظهراني الأمة يكذبون على الله ويفترون على رسوله صلى الله عليه وسلم، والله تعالى قال (ومن أظلمُ مِمَّن افترى على الله كذبا).يخوضون في الدين، ويغشون المسلمين، ويأتون بالعجب العُجاب من المعتقدات الفاسدة والبضائع الخبيثة الكاسدة، ويُبيحون المحرمات، ويُحرِّفون معاني الأخبار والآيات، ويفسِّرون كلامَ الله بآرائهم، ويجذبون جماهير العامة من بحبوحة صحتهم إلى وهدةِ دائهم، يتكلمون بالحلول والإتحاد، ويبثون في الأرض الفساد والإلحاد، ويُكثرون من الشطحات والدعاوى العريضة والترهات، فمثل أولئك عصابة الخدعة والمكر، والفرار منهم يجب كما يجب الفرار من المجذوم.

وليُعلَم أن ما يحصل في القلب من الخوف والرجاء والتوبة والصبر والشكر والحزن والفرح والميل والإعراض والحقد والصفح والشوق والنفرة والحب والبغض إن كان سريع الزوال سمي حالا؛ أي من أحوال القلب، وإن كان بطيء الزوال، أو غير زائل، سمي مقاما؛ أي من مقامات القلب.

فالمقام إن كان محموداً سُمي خُلُقاً حسنا، وإن كان مذموماً سمي خُلُقاً سيئا، إذ العمل الصالح يُنتِجُ حالاً محموداً، والعمل السيئ ينتج حالاً مذموماً، والحال المحمود يُنتج وَجْداً صادقاً، والمذموم يمر على الخاطر بالأوهام فيحرك تواجداً كاذبا، فما كان عن هزة القلب من غير قصد كان وجداً صالحا، وما كان عن تكلُّف وهَمّ كان تواجداً كاذبا.

والتواجد كالتباكي إن كان عن استعمال القلب واستخدام الفكر في أمر الآخرة، ومفارقة المستعارات، وحث الخاطر على طلب الحق، فذلك التواجد ينتج بكاء أو تباكيا، وهو ممدوح. يدلك على ذلك قول المصطفى صلى الله عليه وسلم (اتلوا القرآن وابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا).
روى القاسم بن أبي بزَّة أن ابن عُمر رضي الله عنهما قرأ (ويلٌ للمطففين) حتى إذا بلغ (يوم يقوم الناس لرب العالمين)، فبكى حتى خرَّ ساقطاً وامتنع من القراءة. وروى ابن أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع قارئاً يقرأ (إن لدينا أنكالاً وجحيما وطعاماً ذا غُصَّةٍ وعذاباً أليما)، فصُعِقَ خشيةً لله تعالى.
قال الله سبحانه (اللهُ نزَّل أحسن الحديث كتاباً متشابها مثانيَ تقشَعِرُّ منهُ جلودُ الذين يخشَون ربَهم، ثم تلينُ جلودُهم وقلوبهم إلى ذكر الله). قال عبدالله ابن مسعود رضي الله عنه: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم (اقرأ علي)، قال: قلتُ: كيف أقرأ عليكَ وعليكَ أُنزل؟ قال (فإنّي أُحب أن أسمعه من غيري)، قال: فافتتحتُ سورةَ النساء فقرأتُ حتى إذا بلغتُ (فكيف إذا جئنا من كل أمةٍ بشهيدٍ وجئنا بك على هؤلاء شهيدا)، قال: فغمزني بيده وقال(حَسْبُك)، فنظرتُ إليه وعيناه تدمعان.ونتيجةً لما يُقال عن الوَجد والتواجد، والبكاء والتباكي، إن كان الباعث على

ذلك اتِّباع الشرع، وخوف الله أو محبته و محبة رسوله صلى الله عليه وسلم وورّاثِهِ ونوابِهِ وعباد الله الصالحين فهو ممدوحٌ محمود، وإن كان الباعث عليه اتباع الهوى كان مذموما، فاجهد، أي بني، أن تجعل مقاصدك وأعمالك كلها لله، والله لا يضيع أجر المحسنين
.[/size]
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
الهدهد السليماني
الاداره
الاداره
الهدهد السليماني


عدد المساهمات : 1979
نقاط : 16629
التفاعل مع الاعضاء : 35
تاريخ التسجيل : 05/11/2010

مراحل السالكين Empty
مُساهمةموضوع: رد: مراحل السالكين   مراحل السالكين Emptyالأربعاء يناير 04, 2012 4:01 am

مرحلة الصبر
قال اللهُ تعالى (واصبروا إن الله مع الصابرين)، وقال تعالى (إنما يوفى الصابرون أجرهمَ بغير حساب)، وقال سبحانه (ولنجزِيَنَّ الذي صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون)، وقال جلَّت قدرته (والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر).

وفي الخبر عن النبي الأطهر الأزهر صلى الله عليه وسلم (مِن أقل ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر، ومن أُعطِيَ حظه منهما لم يُبالِ ما فاته من قيام الليل وصيام النهار، وأن تصبروا على مثل ما أنتم عليه أحب إلي من أن يوافيني كل امرئٍ منكم بمثل عمل جميعكم ، ولكني أخاف أن تفتح عليكم الدنيا بعدي ، فينكر بعضكم وينكركم أهل السماء عند ذلك، فمن صبر واحتسب ظفر بكمال ثوابه)، ثم قرأ صلى الله عليه وسلم (ما عندكم ينفد وما عند الله باق).

وإن من أشرف مراتب الصبر حبس النفس عن أغراضها، ومن أهمها إضرار المخلوقين، وهضم مقاديرهم وحقوقهم، وقال تعالى (ولا تبخسوا الناس أشياءهم)،
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: الصبر في القرآن على ثلاثة أوجه، صبرٌ على أداء الفرائض، وصبرٌ عن محارم الله، وصبرٌ في المصيبة عند الصدمة الأولى،
فمن صبر على أداء فرائض الله فله ثلاثمائة درجة، ومن صبر عن محارم الله فله ستمائة درجة، ومن صبر في المصيبة عند الصدمة الأولى فله تسعمائة درجة.

وتنبه أيها المحب، ترى الصبر عن محارم الله أفضل من الصبر على أداء فرائض الله، وقد ترى الفاسق ربما يصبر على أداء فرائض الله، ولكن لا يصبر عن محارم الله. ورضي الله عن السيد سراج الدين الرفاعي المخزومي فإنه قال:
ليس الشجاعُ الذي يحمي فريستَهُ
يوم القتالِ ونارُ الحربِ تشتعلُ
لكنَّ مَن كَفَّ طرفاً أو ثنى قَدَماً
عن الحرامِ فذاك الفارسُ البطلُ

ومن أشرف مراتب الصبر، الصبر على إعطاء أهل الحقوق حقوقهم، قلّت أو جلّت، قربوا أو بعدوا، سواء كانت الحقوق معنوية أو مادية، فإن مَن أهمل حقوق الناس ولو بدانق أو بكلمة أو بجلسة، ولم يصبر على القيام بها، وإن خالفت غرض نفسه، فما هو من الحق ولا من الشرع بشئ، وهذا الشأن من مقام كفّ الأذى عن الخلق، وهو مقام الخُلَّص من الصالحين.

ومِن الصبر احتمالُ الأذى من الناسِ لوجه الله تعالى، وهو مقام المتوكلين الذين انصرفت هِمَمَهُم عن غير الله سبحانه وتعالى، قال الله تعالى (وما لنا ألاّ نتوكل على الله وقد هدانا سُبُلَنا ولنَصْبِرَنَّ على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون).ومن عوالي مراتب الصبر، الصبر على الغنى والعافية، فلا يستعين بنعمة الثروة أو بنعمة العافية على معصية الله تعالى، فحاجة العاقل إلى الصبر على هذه الأحوال فوق حاجته إلى الصبر على المكاره والفقر، قال سهل رضي الله عنه: الصبر على العافية أشد من الصبر على البلاء، والصبر على الغنى أشد من الصبر على الفقر. وكذلك قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتحت عليهم الدنيا وأثروا، واتسعت معيشتهم: ابتُلينا بفتنة الضَرَّاء فصبرنا، وابتلينا بفتنة السَرَّاء فلم

نصبر. فعظَّموا شأنَ الاختبار بالسَرَّاء على الاختبار بالضراء، قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تُلهِكُم أموالكُم ولا أولادكم عن ذكر الله).

ومن الصبر أيضا، الصبر على كتمان المصائب والفقر، وإخفاء أعمال السر من كل ما هو من البر، ومنه الصبر عن حب المدح والحمد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الصبر في ثلاث، الصبر عن تزكية النفس، والصبر عن شكوى المصيبة، والصبر على الرضا بقضاء الله خيره وشره).
قلتُ: ومن الصبر أيضا، الصبر على إيقاف النفس في ساحة الخمول مع التواضع والذلة لله، وإيثار الآخرة على الدنيا تقربا إلى الله تعالى وتحققا بوصف العبودية، مع ترك المنازعة في أوصاف الربوبية.

ومنه الصبر على العيال في الكسب لهم من الحلال، والإنفاق عليهم بالوجه الوسط الشرعي، واحتمال الأذى منهم، فإن في أمور العيال طرقات إلى الله تعالى، أدناها الاهتمام بأمرهم، وأوسطها تهذيبهم والإنفاق عليهم لله تعالى، وأعلاها التوكل على الله بأمرهم، والرضا منه سبحانه في كل ما يؤول إليهم.

ومن الصبر، التدبر مع التحقق بمعنى قوله تعالى ( وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خيرٌ لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شرٌّ لكم).

فإن أردت أيها المحب فضيلة الصبر فالتحق بالصابرين، ولا تنس حكم "إن الله مع الصابرين" ، واتعظ بكل واردٍ إلهي، ولا تبصر الوارد الإلهي كيف كان الأخير، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن المؤمن إذا أصابه السقم ثم عافاه الله، كان كفارة لما مضى من ذنوبه وموعظة فيما يستقبل، وإن المُنافق إذا مرض ثم أعفي كان كالبعير، عقله أهله ثم أرسلوه، فلم يدر لم عقلوه ولم أرسلوه). وقال عليه الصلاة والسلام (ما يصيب المسلم من نَصَبٍ ولا وصَبٍ ولا هَمٍّ ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يُشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه).قلت: والصبر في كل ما يبرزه القَدَرُ للعبد هو تمام الأدب مع المُبرِز الحقِّ سبحانه وتعالى، فإذا صبر ظفر بالعناية من الله والرحمة والأجر العظيم، وكان من أهل المعيَّة وكفى بها مَزِيَّة. ويجب على العاقل إذا لم يكن صابراً أن يتصبَّرَ ويتكلَّفَ للصبر ليكون مع القوم وليدخل في عِدادهم. يقول القائل:
فتشبَّهوا إن لم تكونوا مثلهم
إنَّ التشبُّهَ بالكرامِ فلاحُ

ومن أشرف مراتب الصبر أيضا، الصبر على ستر الكرامة وعلى كتمانها. قال شيخنا الإمام الأكبر مولانا (السيد أحمد الرفاعي) رضي الله عنه وعنا به: الأولياء يستترون من الكرامات كاستتارِ المرأة من دم الحيض.

يتبع عن مرحلة الصـبر
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
الهدهد السليماني
الاداره
الاداره
الهدهد السليماني


عدد المساهمات : 1979
نقاط : 16629
التفاعل مع الاعضاء : 35
تاريخ التسجيل : 05/11/2010

مراحل السالكين Empty
مُساهمةموضوع: رد: مراحل السالكين   مراحل السالكين Emptyالأربعاء يناير 04, 2012 4:35 am

ومِن الصبرِ

، الصبرُ عند عربدة سِكرِ الحال عن إطلاق اللسان بالدعاوى العريضة، قال الإمام سهل رضي الله عنه: من البلوى إطلاق اللسان بالدعوى. قال الشيخ الإمام (السيد أحمد الرفاعي) رضي الله عنه عنّا به: الدعوى أثر رعونة في النفس، لا يحتملها القلب، فيلقيها إلى اللسان فينطق بها الأحمق. وله في هذا المعنى عباراتٌ أُخر متقاربة.

وتدبر ما ذكره العارف الشعراني رحمه الله تعالى في كتابه المسمى بالكبريت الأحمر، ناقلاً عن الشيخ العارف محيي الدين بن العربي تغمده الله برحمته ونفع به بشأن القطب الفرد الكبير العارف الشهير أبي محمد محيي الدين السيد الشيخ عبد القادر الجيلي قدس الله سره وروحه ورضي عنه مع جلالة قدره وسمو منزلته، فقس بين الإمام الجيلي والبندنيجي وتدبر، وهذا ما نقله الشعراني بنصه:
قال، يعني الشيخ محيي الدين في الباب السابع والتسعين وثلاثمائة: إنما ظهر الشيخ عبد القادر الجيلي بالتصريف في والوجود والتأثير والدعاوى العريضة لأن مشهده من الحق تعالى كان حضرة الإسم الظاهر، فأعطاه مقام الصولة والهمة والشطح وإظهار العلو على أمثاله وأشكاله، بل على من هو أعلى منه في مقامه، قال: وهذا المقام وإن كان رفيعاً فثَمَّ ما هو أرفع منه، وهو مقام الأدب وإظهار الذل والمسكنة. أهـ
وقد أطال في هذا الباب، وللشيخ محيي الدين في الفتوحات كلمات كثيرة من هذا القبيل، وعلى هذا إجماع القوم رضي الله عنهم.

فكُن أيها المُحب في سَيرِك وسِيرَتِك محمديّ الأدب، أحمَدِيّ المشرب، تحقَّقْ بالذلِّ والإنكسار، وتباعد عن الشطح والدعاوى والعربدة في الأطوار، وقف مع الأدب أسير الحكم الشرعي الظاهر، ولا تنحرف عنه مقدار شعرة، وخلِّك من هذه المزالق، وتدبِّرْ حالَ نبيِّك وخُلُقه وأدبه وما كان عليه، واكتفِ بتقليده، فهو شيخ طريق الله إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.
ومن أشرف مراتب الصبر،
مرتبة الصبر عن الكلام في الذات والصفات، والوقوف مع ظواهر النصوص في العموم والخصوص، فكم زلق بمثل هذا الكلام زالق، وكم فارق بالخوض فيه للحق مفارق، نعق ناعقهم فتدرج والعياذ بالله تعالى إلى القول بوحدة الوجود المطلقة، واندفع مع تلك المزلقة وزعم أن علوم أهل الله تعالى هي عبارة عن هذه الأغلاط السقيمة والكلمات الذميمة، وقفى ما لم يعلم وأراد أن يصعد إلى السطح بغير سُلَّم ، وتكلم بما سكت عنه الأنبياء والمرسلون، وتباعد عن الخوض به الآل والصحابة والوارثون والصديقون والمقربون، حتى صار والعياذ بالله ملعبة الشيطان، وخبط عقله خابط النقصان، واخترع من مخيلته لقلقة الزور والبهتان، ووقف مع إبليس في مراتعه، وحرف الكلم عن مواضعه، وهدم جدران الحقيقة، وسلك من طرق الزندقة والإلحاد أسوأ طريقة، وادَّعى الوصلة ولكن إلى النار وبئس القرار، وفارق منهاج السلف الأخيار.

وقد أدَّبَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وبلَّغنا الأحكامَ كلها، وتركنا على محجة بيضاء، ليلُها كنهارها، ولم يأت في كتاب الله ولا في سُنَّة رسوله عليه الصلاة والسلام ما يشير لهذه الأغاليط التي وضعها واضعهم حتى زلق والعياذ بالله، فجعل الخلق عين الخالق، والمرزوق هو الرازق، وخلط وغلط، ولم يكتف

حتى زعم أن زندقته هي الطريقة المثلى، والمحجة الموصلة إلى الحضرة الكبرى، وجعل الكفرَ سَعْياً مشكورا، والإلحاد طريقاً مبرورا، وظلمةَ الباطلِ نورا.
والكثير من هذه الفِرقة قام قائمهم، وقعد قاعدهم، منهمكاً بمُطالعة كُتُب الشيخ محيي الدين بن العربي طاب مرقده، ولا بدع، فكُتُب الشيخ كثرت فيها الدسائس من قبل ذوي الزيغ والبهتان وعصائب الشيطان، وهذا الذي يطيب القول به لمن يريد براءة الذمة من القطع بما لم يعلم، والله تعالى قال (ولا تقفُ لما ليس لك به علم).وقد نسبوا، أعني الدساسين، للشيخ ما لا يصح لا عقلاً ولا شرعا، ولا ينطبق على حكمة نظرية، ولا يوافق صحاح القواعد العرفانية، حتى تجرد لرد كلامه أُمَّةٌ من العلماء، وبعضهم ظنَّاً، بل جزماً بأن كل ذلك من كلامه، أفتوا بتكفيره، وقالوا فيه ما لا يُقال، وحكموا عليه بذلك فيما ظهر لهم بقوله الذي لا نشك في دَسِّهِ عليه ما نصه:
إن الله تعالى هو الوجود المطلق الذي ظهر بصور العالم، وتشكل بأشكاله، وتسمى أبا سعيد الخراز وغير ذلك من أسماء المحدثات، وبأن الحق المنزه هو الخلق المشبه، والأمر الخالق هو المخلوق، والأمر المخلوق هو الخالق، وهو تعالى من حيث الوجود عين الموجودات، فظهر بصورة كبش، من ظهر بصورة إنسان، وظهر بصورة ولد، لا بل بحكم ولد من هو عين الوالد، وإن الممكنات على أصلها من العدم، وليس وجود إلا وجود الحق بصور أحوال ما هي عليه الممكنات في أنفسها وأعيانها، فهو هو لا غيره، فكل ما ندركه فهو وجود الحق، أي مُتلبساً وظاهراً في أعيان الممكنات، فمن حيث هوية الحق هو وجوده، ومن حيث اختلاف الصور فيه هو أعيان الممكنات، فهو الساري

في مُسَمَّى المخلوقات والمبدعات، ولو لم يكن الأمر كذلك ما صح الوجود، فهو عين الموجود، فهو على كل شئ حفيظ بذاته، ولا يؤوده حفظ كل شئ، فقل في الكون ما شئت، إن شئت قلت هو الخلق، وإن شئت قلت هو الحق، وإن شئت قلت هو الحق الخلق، فمن نفسه عرف نفسه، وليست نفسه بغير لهوية الحق، ولا شئ من الكون مما هو كائن ويكون بغير لهوية الحق، بل هو عين الحق، فهو العارف والعالم والمقر في هذه الصورة، وهو الذي لا عارف ولا عالم وهو المنكر في الصورة الأخرى.

وبقوله في الكلمة العيسوية:
فقال تعالى (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم)، فجمعوا بين الخطأ والكفر في تمام الكلام كله لا في أجزائه، وإنما قلنا الجمع بين الخطأ والكفر في تمام الكلام لا في أجزائه، لأنه، أي الجمع بينهما، لا يتحقق بقولهم المسيح هو الله أو الله هو المسيح فقط، فإنه إن حمل على أن هوية الحق سبحانه هي التي تعينت وظهرت بالصورة المسيحية كما ظهرت بصور العالم كلها من غير أن يلاحظ فيه معنى الحصر فهو صدق لا شك فيه، وإن لوحظ فيه معنى الحصر فهو كفر وستر لما هو الحق عليه من عموم سريانه في الموجودات كلها، وإن حمل على أن الهوية الإلهية حالة في الصورة المسيحية فهو أيضاً كفر، إذ ظهورها في الأشياء ظهور المطلق في المقيد، لا ظهور الحال في المحل، فليس فيه إلا الكفر على بعض التقادير.
وكذلك الجمع بينهما لا يتحقق بقولهم ابن مريم فقط، لأنه ابن مريم بلا شك، فليس فيه كفر ولا خطأ أصلا. انتهى، كذا في تفصيلات الجامي.
وأيضا قال داود القيصري في شرحه: أي جمعوا بي الكفر وهو ستر الحق بالصورة العيسوية، وبين الخطأ وهو حصر هوية الله في الكلمة العيسوية،

والمراد بقوله في تمام الكلام، أي مجموع قولهم أن الله هو المسيح ابن مريم، جمعوا بين الكفر والخطأ لا بقولهم: هو الله، ولا بقولهم ابن مريم، لأن قولهم هو الله أو الله هو صادق من حيث أن هوية الحق هي التي تعيَّنت وظهرت بالصورة العيسوية، كما ظهرت بصور العالم كله، وقولهم المسيح بن مريم أيضا صادق لأنه ابن مريم بلا شك، لكن تمام الكلام ومجموعه غير صحيح لأنه يفيد حصر الحق في صورة عيسى، وهو باطل، لأن العالم كله، غيباً وشهادة، صورته لا صورة عيسى فقط. انتهى.
وبقوله أيضاً، فكان عتب موسى أخاه هارون عليهما السلام لما وقع الأمر في إنكاره وعدم اتساعه، فإن العارف من يرى الحق في كل شئ، بل يراه عين كل شئ، والعارف يخلق بالهمة ما يكون له وجود من خارج محل الهمة، ولكن لا تزال الهمة تحفظه ولا يؤودها حفظه، أي حفظ ما خلقته، فمن حيث الحفظ لما خلق له أن يقول: أنا الحق.
فإن قلت هذا الحق قُدتُكَ صادقا
وإن قلتَ أمر آخر أنت عابر
فإياك أن تتقيد بعقد مخصوص وتكفر بما سواه فيفوتك خير كثير، بل يفوتك العلم بالأمر على ما هو عليه، إلا أن صاحب هذا المعبود الخاص جاهل بلا شك في ذلك لاعتراضه على غيره فيما اعتقده في الله، والسعيد من كان عند ربه مرضيا، وما ثمة إلا من هو مرضي عند ربه، لأنه الذي يبقي عليه ربوبيته فهو عنده مرضي فهو سعيد فهو مُصيبٌ مأجور وكلٌ مأجورٌ سعيدٌ مرضي عند ربه، ولما كان الأمر في نفسه على ما قررناه، لذلك كان مآل الخلق إلى السعادة على اختلاف أنواعها، ثم لتعلم أنه ما يقبض الله أحداً إلا وهو مؤمن، أي مصدق بما جاءت به الأخبار الإلهية، وأعني من المحتضرين،

والمحتضر ما يكون إلا صاحب شهود، فهو صاحب إيمان، بما ثمة فلا يقبض إلا على ما كان عليه.
فلم يبقَ إلا صادق الوعد وحده
وما الوعيد الحق عين تعاين
وإن دخلوا دار الشقاء فإنهم
على لذة فيها نعيم مباين
نعيم جنان الخلد والأمر واحد
وبينهما عند التجلي تباين
يسمى عذابا من عذوبة طعمه
وذاك له كالقشر والقشر صاين
الأعيان ما شمت رائحة من الوجود، وأن الممكنات على أصلها من العدم، فقد علمت من يلتذ ومن يتألم. انتهى.
وأيضاً حكموا عليه بإنكاره حقائق الأشياء التي اجتمع على ثبوتها الخارجي العلماء والعقلاء، بل اتفق على إثباتها جميع الملل والنحل، لأن كُلاً من الحس والعقل والشرع يشهد بأن حقائق الأشياء ثابتة، والعلم بها متحقق، فما أنكرها عناداً إلا السوفسطائية والوجودية، فالعنادية أنكروها رأساً، والوجودية أنكروها فيما عدا الوجود المطلق كما حققه السيالكوتي في حاشيته على شرح العقائد قال: إن العنادية يعاندون العقلاء الجازمين بثبوت الأشياء من الواجب والممكن، يدَّعون الجزم بعدم ثبوت نسبة أمرٍ إلى آخر في نفس الأمر حتى نسبة التميّز، فلا تكون الحقائق إلا أوهاماً وخيالاتٍ كالسراب، فليس في الحقيقة ربٌّ ولا عبدٌ ولا نبيٌّ ولا مرسل، لأن الكل راجعٌ إلى أصلٍ واحد في الحقيقة هو الوجود المجرَّد العاري عن التكثر، وإنما التمايز إنما هو بحسب التعيّنات الوهمية، كما ذهب إليه الصوفية الوجودية. انتهى.
فإذاً يتعين أن مذهب الوجودية أن جميع الحقائق سوى الوجود المطلق أوهام وخيالات كالسراب، فليس عندهم في الحقيقة سوى الوجود المطلق،

لا عبدٌ ولا نبي ولا مرسل ولا شرائع ولا كتب منزلة كما نقلوا عن الشيخ محيي الدين في رسالة له، من عرف نفسه نبيُّهُ هو، ورسوله هو، ورسالته هو، وكلامه هو، أرسل نفسه بنفسه من نفسه إلى نفسه. انتهى.

أليست هذياناتهم هذه ودسائسهم على الشيخ وأمثاله كلها إلحاد وزندقة وإبطال لجميع الشرائع وإفساد في دين الإسلام؟ لأنه معلومٌ بالبداهة أن ثبوت ذوات الأنبياء وشرائعهم، وثبوت الجنة والنار، والثواب والعقاب في دار الجزاء، إنما يبتني على ثبوت الحقائق في الخارج، وإذا انتفى ثبوتها فيه انتفى ثبوت ذوات الأنبياء عليهم السلام وغيرهم من الأمور المذكورة بالضرورة، فلا يتأتى حينئذٍ إثبات رسول ومرسل إليه، فيلزم من ذلك بطلان جميع الأمور الدينية والتكاليف الشرعية. وأما القول بإقرار الأديان وادعاء الإيمان بالرسل تستراً وتلبيساً، مع نفي الحقائق وسلب الوجود عن الأشياء المستلزِم إبطال الشرائع، فتناقضٌ ظاهر، ومحالٌ باهر، بل هو عين الزندقة والإلحاد المنافيان للشرائع والأديان، فانظر وانصف إن كنت أهلاً للإنصاف.
فلما عجزوا عن إقامة البرهان وسوق الأدلة إلى إثبات المرام بهتوا وتحصنوا مع ارتكاب أنواع المحالات الفضيحة في ترويج تلك الأباطيل الشنيعة، بادعاء الكشف والعيان كما قال سعد الدين التفتازاني رحمه الله في رسالته، ويروجون تلك السفسطة النافية لدين الإسلام، ولزوم الأحكام بإحالتها على الكشف، ويتفوَّهون بأن درجة الكشف وراء طور العقل، وأنت خبير بأن مرتبة الكشف نيل ما ليس له العقل ينال، لا نيل ما هو ببديهة العقل محال، ولا ينبغي أن يُتوهم أن ذلك من قبيل ما ليس له العقل ينال، بل هو مستحيل وللعقل في إبطاله تمكُّنٌ ومجال.

ثم إن ما يناله الكشف ولا يناله العقل عبارة عندهم عن الممكن الذي الطريق إليه العيان دون البرهان، لا المحال الممتنع الوجود في الأعيان، إذ الكشف لا يجعل الممتنع متصفاً بالإمكان موجودً في الأعيان.
وقال أيضاً في محلٍّ آخر من تلك الرسالة: فكيف يحل لمسلم أن يسمي بالتصوف هذه الزندقة؟ وأولئك الكفرة الزنادقة بالمتصوفة؟ بل التصوف في لسان القوم عبارة عن التخلُّقِ بالأخلاق النبوية، والتمسُّكِ بقوائم الشريعة المطهرة المحمدية في العلمية والعملية، لا عن عقيدة المعطلة والسوفسطائية والدهرية.
ومما يزيد لضلال أولئك الملحدين كشفاً وإيضاحا، ولحال أولئك المبطلين هتكاً وافتضاحاً، أنهم يجمعون في إثبات تلك الزندقة الملعونة بين إقامة الحجة والبرهان، وبين ادعاء ظهورها عليهم بالكشف والعيان، مع أنه من المعلوم عند أهل العرفان أن التعبير عن المعلوم بالكشف والعيان ليس في حيِّز الإمكان، لقصور العبارة عن بيان هذه الحال، وتعذُّر الكشف عنها بالمقال، فلا يمكن إيداعه في الكتب والرسائل، فضلاً عن إثباته بالحُجَجِ والدلائل، وناهيك ببديهة العقل الحاكمة على بطلان زندقتهم التي أصولها المكابرات، وفروعها الضلالات والمحالات التي لم يُسمع بمثلها من الكفرة الأقدمين، لا من المجوس ولا من المشركين. انتهى.

وكما قال السيد الشريف في حاشية التجريد: ذهب جماعة من الصوفية إلى أن ليس في الواقع إلا ذات واحدة، وهي حقيقة الوجود، ولها تقيدات بقيود اعتبارية، بحسب ذلك تتراءى، أي تظن موجودات متمايزة، فيتوهم من ذلك تعدد حقيقي، وليس كذلك، بل الكل حقيقة واحدة كالبحر في تموجه، فيتوهم الصغير الذي لا يعقل أن ذلك المرتفع والمنخفض غير الماء، أما العاقل

فلا يخفى عليه أن ليس هناك إلا بحر وتعين، وأن هذه الحالة أمور اعتبارية، فكذلك ليس في الوجود سوى الله تعالى، وأن هذه الصور المرئية، والكثرة المشهودة أمور اعتبارية وخيالات وهمية، ليس لها حقيقة مغايرة لحقيقة الحق.
أقول: هذا خروج عن طور العقل، فإن بداهته شاهدة بتعدد الموجودات تعدُّداً حقيقيا، وأنها ذوات وحقائق مختلفة بالحقيقة دون الاعتبار فقط. انتهى.

وأيضاً قال في شرح المواقف: أن حقائق الموجودات متخالفة بالضرورة، وما يُقال أن الكل ذات واحدة تتعدد بحسب الأوصاف لا غير، فالمتقيدون بطور العقل يعدونه مكابرة لا يُلتفت إليها. انتهى.

وقال بعضهم: قال أصحاب الذوق الوهمي: إذا تعارض الكشف وظاهر الشرع، قدمنا الكشف، لأن الخبر ليس كالمعاينة. ولم يدروا أن أخبار الله ورسوله فوق مرتبة عيان الخلق، فكيف بالكشف الذي هو محل اللبس.

وقال الإمام الطحاوي رحمه الله: إن العلم علمان، علم في الخلق موجود، وعلم في الخلق مفقود، فإنكار العلم الموجود كفر، وادعاء العلم المفقود كفر، ولا يثبت الإيمان إلا بقبول العلم الموجود، وترك طلب العلم المفقود. انتهى.
أراد بالعلم المفقود، علم القدر والغيب الذي طواه الله تعالى عن أنامه ونهاهم عن مرامه، وأراد بالعلم الموجود علم الشريعة، أصولها وفروعها، فمن أنكر شيئاً مما جاء به الرسل كان من الكافرين، وكذا من ادَّعى علم الغيب. انتهى.

وأيضا قال شارح العقيدة الطحاوي: وهذا القول الذي هو ظاهر الفساد قد قضى بقومٍ إلى القول بالحلول والاتحاد، وهو أقبح من كفر النصارى في الاعتقاد، فإن النصارى خصُّوه بالمسيح من الكائنات، وهؤلاء عموا جميع الكائنات، ومن فروع هذا التوحيد عندهم والعياذ بالله، أن فرعون وقومه

كاملو الإيمان، عارفون بالله تعالى على التحقيق والإيقان، ومن فروعه، أنه لا فرق في التحريم والتحليل بين الأم والأخت والأجنبية، ولا فرق بين الماء والخمر، والزنا والنكاح، فكل من عين واحدة، بل هو العين الواحدة، ومن فروعه، أن الأنبياء ضيقوا على الناس، تعالى الله عما يقول الظالمون عُلُوّاً كبيرا. انتهى.

كما أنه أشار إلى أقوالٍ دُسَّت على الشيخ محيي الدين من أنه قال في الفصوص: من ادعى الألوهية فهو صادق في دعواه. ومن أنه أباح المكث للجنب والحائض في المسجد، وأنه يقول بقدم العالم، ومن أنه قال: ضيق ابن أبي كبشة أمر الدنيا على الموحدين، وأن فرعون خرج من الدنيا طاهراً مُطهراً، كما نقل ذلك عماد الدين بن كثير بسنده عن العلامة تقي الدين السبكي عن شيخ الإسلام ابن دقيق العبد القائل في آخر عمره: لي أربعون سنة ما تكلمت بكلمة إلا وأعددت لها جواباً بين يدي الله تعالى.

قال الإمام الجزري رحمه الله بعد كلام: وبالجملة، فالذي أقوله وأعتقده وسمعته ممن أثق به من شيوخي الذين هم حجة بيني وبين الله تعالى أن من صح عنه هذا الكلام وأمثاله مما يخالف الشرع المطهر، وقاله وهو في عقله ومات وهو معتقد ظاهره، فهو أنجس من اليهود والنصارى، فإنهم لا يستحلون أن يقولوا ذلك، ولا يُلتَفَت إلى قولِ من قال أن هذا الكلام المخالف لظاهر المرام ينبغي أن يؤول بما يوافق أحكام الإسلام، فإنه غلط من قائله، وكيف يؤول قولهم:
الرب حقٌّ والعبد حقٌّ يا ليت شعري من المُكلَّف
وقولهم: ما عرف الله إلا المعطلة والمجسمة؛ لأن الله تعالى يقول(ليس كمثله شئ)،

فهذا دليل المعطلة، (وهو السميع البصير)، دليل المجسمة، وقولهم: ما عبد من عبد إلا الله؛ لأن الله تعالى يقول (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه)، وقولهم في فرعون: قبضه الله تعالى طاهراً مطهراً لم يقترف ذنبا، والله تعالى يقول (فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين * وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون * وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين)، ثم إنما يؤول كلام المعصوم، ولو فتح باب تأويل كل كلام ظاهره الكفر لم يكن في الأرض كافر. انتهى.

والحق يقال، الذي عليه أهل الورع من علماء الدين، أنه لا يحكم على ابن عربي رحمه الله نفسه بشيء؛ لأنّا لسنا على يقين من صدور مثل هذه الكلمات منه ، ولا استمراره عليه إلى وفاته، ولكنا نحكم على مثل هذا الكلام بأنه كفر. وقد تجرأ بعضهم فقال: هذه الكلمات من اصطلاحات الصوفية، تواضعوا على ألفاظ وأرادوا بها معاني غير المعاني المتعارفة منها. فأجاب بعض الفضلاء عن تلبيس هذا الملبس بقوله: إن أراد هذا المغفل بالصوفية الصوفية الحقيقية المسلمين التابعين للكتاب والسنة، فزُورٌ وبهتان، لأنهم إنما اصطلحوا على ألفاظ مطابقة في تفسيرها لقواعد الإسلام وأحكام الشرع، غير مخالِفة لشيء منها على ما هو في البرهان المؤيد والرسالة القشيرية ونحوهما.
وإن أراد بالصوفية هؤلاء الملاحدة فإننا قد اطلعنا على اصطلاحاتهم المخالِفة لقواعد الإسلام، بل لقواعد جميع الملل والأديان، واختبرنا مذهبهم حقيقة الاختبار فكله فاسد، وإلى الوهم والخيال راجع وعائد، والسادة الصوفية أهل المراتب العلية هم كما قال الشريف المقري رحمه الله تعالى:
على الحق كانوا ليس فيهم لوحدةٍ
ولا لحلول الحق ذِكرٌ لذاكرِ

ويا ليت شعري هل يجوز لأحد أن يصطلح على ما يخالف الشرع واللغة ويوجب كفر صاحبه، ويصير سبباً لفتح باب الشر والفساد لسائر الملاحدة والزنادقة المبطلين؟ فويلٌ ثم ويل لمن يدعي العلم ويظهر الفضل فينخدع ويغتر بمثل هذه الشبهات الركيكة الوهمية، والتلبيسات الإلحادية الزنديقية، ولم يفرق بينهما وبين الاصطلاحات الإسلامية.
وقال بعضهم أن كلامهم شبيه بالمتشابه في الكتاب والسنة، مَن حمله على ظاهره كفر، وله معنى سوى المعنى المتعارف . وقال بعض العلماء في جوابه بأن المتشابه هو الكلام الذي فيه اشتباه الطرفين يشبه المردود بظاهره، ويحتمل المقبول بتأويل مطابق لظاهره، وهذا لا يتأتى في أكثر اعتباراتهم، بل هي نص صريح في أن الحق هو الوجود المطلق، وأن العالم صورته وهويته.
وأيضا، هل يجوز لأحد غير الشارع أن يتكلم بكلمات متشابهة مخالفة للشرع، ويداوم عليها، ويكتبها في الكتب، ويدونها في الزبر، ويحرض الناس على قبولها والعمل بها؟ كلا، لا يجوز ذلك لغير الشارع صلى الله عليه وسلم أبدا.

ولا تغتر أيها المحب بقول من يقول أن هذه الكلمات من أمور القلب، فذلك جهل أو عناد؛ لأن الألفاظ قوالب المعاني وموضوعة لها، والمعاني إنما تؤخذ من الألفاظ، وإلا لما ثبت كفر أحد ولا إيمانه، مع أن العلماء والعقلاء اجتمعوا على أن مذاهب الرجال تعرف من كلامهم في كتبهم، وإلا فقد فُقد الأمن من كل شئ.

قال سعد الدين التفتازاني رحمه الله تعالى: صرف الكلام عن ظاهره وجواز تأويله وحمله على المجاز إنما يمكن إذا لم يصرح المتكلم بأن مقصوده حقيقة الكلام، ولم يقم على إثباتها البرهان، فعند التصريح وإقامة الدليل على إثبات

مفهومه الصريح، يصير محكماً في إفادة الحقيقة ، غير قابل للتأويل وحمله على المجاز، وذلك كتصريح الملاحدة الوجودية بأن الله تعالى هو الوجود المطلق، المنبسط في الظاهر، ثم تلفيقهم المغالطة في صورة البرهان على إثباته، ثم تفريعهم عليه بأن كل من عَبَدَ الأصنام فقد عَبَدَ الله، وكل من ادعى الألوهية فهو صادق في دعواه، فلذلك بعدما صار محكما بالتصريح وإقامة الدليل لا يقبل التجوز والتأويل.
وبهذا يظهر لك بطلان ما يقوله الذابُّون عن هؤلاء الملاحدة أن ليس مراد الوجودية ما تفهمه العامة، بل لهم تأويل لا يفهمه إلا الخاصة. انتهى.

وقولهم لعل له تأويلا ، عين الفساد في الدين أن يتكلم شخص بكلام هو كفر وإلحاد في ملة الإسلام ويُرَغِّبُ فيه ويدعو إليه ، ثم يقال: لعل له تأويلا عند أهل الباطن، وهل باطن دين الإسلام يخالف ظاهره؟ فإن قالوا كلاهما حتى يقال لهم: هذا مخالِف لقوله تعالى: (فماذا بعد الحق إلا الضلال).وأيضاً مخالِفٌ لإجماع المسلمين أن الحق واحد في الاعتقاديات التي يكفر مخالف الحق فيها، ولهذا أجمع أهل زمان الحلاج على قتله مع أن كلامه أقرب إلى إمكان التأويل من كلام غيره، وقولهم: صدور ذلك عنهم يكون في حال السكر والغيبة، وهم غير مؤاخذين لأنهم غير مكلفين في ذلك الحال.
والجواب قد تقرر، أن صدور مثل كلمة أو كلمتين أو نحو ذلك حال السكر والشطح، قد يمكن ، لا تأليف كتاب وتأسيس قواعد، وتفريع فروع مبنية عليها، وترتيب مقدمات وبراهين بزعمهم، كتأسيس أن الحق سبحانه هو الوجود المطلق الظاهر في صورة الموجودات، وأن الموجودات عينه وهويته، ثم تفريع أن من عَبَدَ شيئا فإنما عَبَدَ الله، فأي مسلم يحل له أن يسمع مثل هذا ؟

ثم يقول لعل له تأويلا، أو لعله قاله القائل حال سكره، أو أن يعتقد أن القوم أهل الله يقولون أو يعتقدون مثل هذا الكلام وحاشاهم، بل هم مبرؤون من كل ذلك، وقائل ذلك هالك.

فالحاصل، أن القائلين بالوحدة المطلقة لهم اعتقاد خارج عن الشرع والعقل، وهم مصرحون بذلك ويقولون: أن متابعة العقل حجاب، وكذلك العلم الاستدلالي، وإنما يُنال العلم الذي يدعونه بالذوق لا بتقليد الأنبياء، ولا ببراهين الحكماء، يريد بذلك قائلهم: أن نظر العقل قاصر عن إدراك الأمور كما هو حقها، فكذلك الأخبار أيضا قاصرة عنه، لأنه لا يمكن الوصول إليها إلا بالذوق لا بالوحي، فلذلك ألسنة الأنبياء والرسل قاصرة عنها، فلم يبق العلم الكامل والإدراك التام إلا في التجلي والكشف، فهذا إنكار لجميع الشرائع وصريح في عدم قبولها ، كما قال الكثير من الوجودية: كُمَّلُ الأولياءِ يأخذون العلم من المعدن الذي أخذ منه الأنبياء والرسل، من ذلك المعدن، فالعلم الذي أخذ بواسطة الرواة والأسانيد ليس بعلم. وهذا الضلال البعيد، والعصيان الذي ما عليه من مزيد.

وقدح بعض الفضلاء، أن هذه الضلالة المستحيلة في العقول سرت في جماعة من المسلمين نشأوا في الابتداء على الزهد والخلوة والعبادة، فلما حصلوا من ذلك على شئ، صفت أرواحهم، وانكشفت لهم ما كانت الشواغل الشهوانية مانعة من انكشافه، وقد طرق أسماعهم من خرافات رهبان النصارى أنه إذا حل روح القدس في شئ نطق بالحكمة، وظهر له أسرار ما في هذا العالم مع تشوق النفوس إلى المقاصد العلية، فذهبوا إلى هذه المقالة السخيفة، فمنهم من صرح بالاتحاد على المعنى الذي قالته الرهبان وزادوا عليهم ولم يقتصروه على المسيح كما ذهبت إليه غلاة الروافض في سيدنا الإمام علي رضي الله تعالى عنه

من الحلول، ولهم في ذلك كلمات يعسر تأويل كلها لمن يريد الاعتذار عنهم، بل منها ما لا يقبل التأويل، ولهم في التأويل خلط وخبط كلما أرادوا أن يقربوا من المعقول ازدادوا بعدا، حتى أنهم استنبطوا قضية حلت لهم الراحة، وقنعوا في مغالطة الضرورة بالمغيب وهي أن ما هم فيه يزعمونه وراء طور العقل، وأنه يُفهم بالوجدان، ولا يقدر على الإيضاح به اللسان، والحال أن التكليف في أمر الدين لم يجيء إلا بمقدار الوسع، والوسع هو الوسع العقلي لا غير، والله تعالى قال (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها)؛ أي طاقتها ووسع عقلها، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يمتحن الأمة بما تعي به العقول.
فعلى هذا، ما كان وراء طَور العقل لم يكن من الدين، وهذه أحكام الدين التي يجب اعتقادها دائرة على محور العقل، ولا يضر بعض الأحكام عدم وصول بعض العقول لفهمها ولحقائق أسرار الشرع فيها، بل الغاية من هذا المعنى أن العقول الكاملة، أعني عقلاء العلماء العاملين، وأهل العرفان واليقين، محيطة بفهم حقائق الأحكام المعتقَدة.

ولذلك قا الشيخ القطب الغوث الأكبر الإمام السيد (أحمد الرفاعي) رضي الله عنه وعنا به: كل دين لم يحط بالعقل فليس بدين، وكل عقل لم يحط بالدين فليس بعقل، أي ليس بعقل كامل. وقد أوردنا في هذا المقصد كلمات العلماء الأعلام احتجاجا على قواصر الأفهام، كيلا يزعم أحدهم أن قولنا محض انتصار لمذهبنا في طريقتنا العلية الرفاعية بالرد على الوجودية.

ومن كلام علماء الدين رضي الله عنهم، تعلم أيها المحب صحة مذهب السادة الرفاعية أنصار السُنة السُنية، فتمسك بهديهم، وسر بطريقهم، وخذ بقولهم، ودع شقاشق

أهل الوحدة المطلقة، فإنها عين الزندقة، ولا تفرط، ولا تفرِّط وبرئ القوم الذين اشتهروا بالصلاح والعرفان من نسبة الأقوال المكفرة إليهم، وحملها عليهم، وقل بدسها في كتبهم وعلى ألسنتهم، فقد وضع الوضّاعون على لسان الشارع المأمون صلى الله عليه وسلم، وتحقق بظاهر الشرع الشريف، واعمل به اتباعاً للعلماء العاملين أكابر الدين، ودع ما يريبك إلى ما لا يريبك، وقِفْ مع السنة، وتباعد عن الفتنة، واهجر المارقين والضالين، واندمج في الصالحين الصادقين، وإن الله لمع المتقين.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
المحبة للمصطفى
المدير العام
المدير العام
المحبة للمصطفى


عدد المساهمات : 5852
نقاط : 33690
التفاعل مع الاعضاء : 15
تاريخ التسجيل : 18/09/2010
العمر : 74
الموقع : النور المحمدى

مراحل السالكين Empty
مُساهمةموضوع: رد: مراحل السالكين   مراحل السالكين Emptyالأربعاء يناير 04, 2012 5:37 am


سيدى وشيخنا الفاضل الهدهد السليمانى

اعجز عن الشكر .. الكلمات لا تفيك حقك على موضوعك الكريم المميز

جزاك الله عنه وعنا خير الجزاء

وبارك لك وعليك وفيك ولا حرمنا من عطائك سيدى الكريم

مراحل السالكين 1325680223141

مراحل السالكين 1325680223522

تقبل منى كل تحية تقدير وعرفان

خادمتكم

المحبة للمصطفى

...
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
مراحل السالكين
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الملتقى الصوفى للنور المحمدى :: ๑۩۩۩۩ ملتقى العرفان الصافى المصفى ۩۩۩۩๑ :: ๑۩ ملتقى الزاد والزواد ۩๑-
انتقل الى: