هو تاج الصوفية الامام أبو بكر بن جحدر الشبلي ، وذهب آخرون الى أن اسمه جعفر بن يونس .
وقد روى السلمي هذه التسمية الأخيرة في طبقاته عن أحد معاصريه ، ورأى ذلك مكتوبآ على قبر الامام الشبلي ببغداد .
وقد ولد رضي الله عنه ببغداد سنة 247 هـ ولحق بربه 334 هـ عن سبع وثمانين سنة ، وهو خرساني الاصل
ومع روايته للحديث واشتغاله بالعلم فقد ترقى في مناصب الدولة حتى صار واليآ بنهاوند والبصرة ، وأصبح مقربآ من الخليفة واتسع مجده وشهرته ، ولكن المقادير كانت تدخر له من العناية ما لم يدر بخلده ، فكان بدء عهده بطريق القوم حينما هيأت له الأقدار أن يحضر الى مجلس الصوفي العارف سيدي خير النساج رضي الله عنه ، فاستمع الى حديثه في العلوم القوم ورأى ما أبداه الشيخ من عجائب أحواله وخوارقه ، وأحس الشبلي بوقع كلمات الشيخ في أعماق نفسه و وجدانه ، تكشف له عن مدى تفريطه في حق مولاه واعراضه عن طاعة سيده ، فانهمرت دموع ندمه وتوبته وقام من مجلس الشيخ ، وقد تفجرت في أعماقه ذرات الخشية والانابة .
وعزم على المضي في طريق مولاه فترك مركزه ورمى بجاهه وشهرته ، حتى ذهب الى مقاطعة ( نهاوند ) التي أقطعه اياها الخليفة ، وقال لأهلها : كنت والى بلدكم فاجعلوني في حل .
وبدأ التحول الخطير في حياة العارف الشبلي ، لقد صار يحس بتيار جارف من التعلق بالله يهز أركان نفسه ، وماذا يساوي ملك الدنيا بأسرها بجانب نعيم لحضة يتصل فيها العبد بخالقه ؟ أليس منه البدء واليه المنتهي ، " فالى متي الفرار من الله ومتي الفرار اليه ؟ " وأسرع الشبلي للقاء الامام الجنيد سيد الطائفة الصوفية ليتلقى عنه أصول الطريق الصوفي ولينخرط في سلك أكرم طائفة ، انها ظائفة الربانيين من عباد الله .
وعلى أهبة الاستمداد من محيط امدادات القوم جرى بينه وبين الامام الجنيد هذا الحوار الحافل بددر المعاني ، وهو كما يذكر صاحب كتاب ( التبر المسبوك ) : أن الشبلي قال للجنيد : لقد حدثوني عنك أن عندك جوهرة العلم الرباني الذي لا يضل صاحبه ولا يشقى ، فاما أن تمنح واما أن تبيع ، فقال الجنيد : لا أستطيع أن أبيعها فما عندك ثمنها ، وان منحتها لك أخذتها رخيصة فلا تعرف قدرها ، ولكن وقد رزقت هذا العزم فهو علامة الاذن وبشير التوفيق ، فألق بنفسك غير هائب في عباب هذا المحيط مثلما فعلت أنا ، ولعلك ان صبرت وصاحبك التوفيق أن تظفر بها ، واعلم أن طريقنا طريق المجاهدين الأخذين بقوله ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) فاجعل هذه الآية نصب عينيك ، فهي معراجك الى ما تريد .
ووضع الامام الشبلي قدمه على أول الطريق حيث تلقي نسبته الصوفية عن الامام الجنيد عن سيدي السري السقطي عن سيدي معروف الكرخي الذي نهل من نبع آل البيت ، حيث أخذ عن سيدي علي الرضا رضي الله عنه ، من جهة كما أخذ عن سيدي داوود الطائي عن التابعين من جهة أخري .
وكان الارتباط بين سيدي ابي بكر الشبلي وسيدي أبي القاسم الجنيد رضي الله عنه يفوق في مدلوله حد التصور ، انها صحبة الولاية في طريق الحق عز وجل ، وانها خلة الروح على صراط المحبة ، ولقد كان كل منما كبيرآ في عين الآخر شامخآ في منزلته شاهقآ في رفعته.
ولقد بلغ من تقدير الامام الجنيد لمكانة العارف الشبلي بين أقطاب الصوفية أنه قال : لكل قوم تاج وتاج قومنا الشبلي .
انها كلمة حق من سيد الطائفة والامام الشبلي خليق بها وأهل لها ، لأننا حينما نقلب صفحات الجهاد الروحي ونستطلع الجانب العلمي عند العارف الشبلي سنجد ولا شك سطورآ من نور تشير الى سمو هذه الشخصية وعظم منزلتها من الناحية العلمية .
ويرى صاحب الرسالة القشيرية أن فقيها من أكابر الفقهاء كانت حلقته بجانب حلقة الشبلي في جامع المنصور ، وكان يقال لذلك الفقيه أبو عمران ، وكانت تتعطل عليهم حلقاتهم لكلام الشبلي ، فسال أصحاب أبي عمران يومآ الشبلي عن مسألة في الحيض وقصدوا اخجاله فذكر مقالات الناس في تلم المسألة والخلاف فيها .
فقام أبو عمران وقبل رأس الشبلي وقال : يا أبا بكر:استفدت في هذه المسألة عشر مقالات لم أسمعها ، وكان عندي من جملة ما قلت ثلاثة أقاويل .
وكان للشبلي لسان عال فى الطريق ومحجة قوية في الشريعة يشهد بهما كل من تصدى لجداله من الفقهاء ، فقد كان ابن بشار ينهى الناس عن الاجتماع للشبلي والاستماع لكلامه ، فجاءه اين بشار يومآ ممتحنآ فقال له : كم من خمس في الابل : فسكت الشبلي فأكثر عليه ابن بشار فقال الشبلي : في واجب الشرع شاة ، وفيما يلزم أمثالنا كلها ، فقال له لبن بشار : هل لك في ذلك امام ؟ قال نعم : قال : من؟ قال : ابو بكر الصديق رضي الله عنه حيث أخرج ماله ، فقال النبي صل الله عليه وسلم : ما خلفت لعيالك ؟ قال : الله ورسوله .
فرج ابن بشار ولم ينه بعد ذلك أحدآ عن الاجتماع بالشبلي .
لقد كان وراء علم الشبلي بالشرع علم آخر أخذه عن الله الهامآ ، وكان يقول عن علم القوم : ما ظنك بعلم علم العلماء فيه تهمة !!، فالعلم المكتسب لا بقاس بعلم أهل الله ، وشتان بين علم أخذ عن الخالق وعلم أخذ عن المخلوق .
وهذه صفحة أخرى من جهاد الشيخ في عبادته وعلمه : لقد دخل عليه أبو بكر بن مجاهد فحادثه فسأله عن حاله فقال : ترجو الخير تختم في كل يوم ختمتين أو ثلاثآ ؟ فقال له الشبلي : أيها الشيخ قد ختمت في تلك الزاوية ثلاث عشرة ألف ختمة ، ان كان فيها شيئ فقد وهبته لك ، واني لفي درسه منذ ثلاث وأربعين سنة مت انتهيت الى ربع القرآن .
لقد قصد الشبلي بتلاة القرآن الكريم وجه الله ، أما الثواب فقد وهبه لمن يبتغيه ، لقد كان حسبه أن يناجي مولاه بكلامه ثلاثة عشر ألف ختمة ، ولم يرد ثمنآ لهذه المناجاة لأنها خاصة لله ، فأي نوع هذا من الاخلاص ؟ أنه اخلاص الحب لذات الله بعيدآ عن منطق الثواب والعقاب .
ثم لنطل على جانب آخر من جوانب الجهاد الروحي عند الامام الشبلي ، حيث نرى النفس في طاعة الله ، وحيث نتشرف على مقام المحبة عند هذا الولي .
ان الشبلي منذ عرف طريق القوم قد قطع على نفسه عهدآ بالتجرد لمولاه ، فالحب الذي غمر قلبه لله يأبي ادنى مشاركة ، فاختط لنفسه طريق الجهاد الاكبر ضد نفسه و هواه ، وبلغ به الحد في مجاهدته نفسه أنه كان يكتحل بالملح حتى لا ينام ويعتاد السهر ، وحينما لامه أصحابه في قلة النوم قال لهم : سمعت الحق يقول لي : من نام غفل ومن غفل حجب ، وكان هذا سبب اكتحالى بالملح حتي لا أنام .
لقد كان يبيت الليل ساهرآ يقطع أنفاس السحر في قيامه لربه ، ويسكب في دياجي الليل أنات الخشية والانابة ، انه الحب الاهي الذي لا يقاس به حب في الوجود .
واذا كان عشق المخلوق قد أفضي بقيس بن عامر الى الجنون بليلاه فكيف بعشق الخالق ؟.
والمحبة الالهية لها وصف لا يعرفه وهج ان استقرت في الحواس قتلت ، وان سكنت في النفوس أسكرت ، فهي يكر ظاهر ومحبة في الباطن .
ومرة أخرى يقول : المحبة بحار بلا شاطئ ، وليل بلا آخر ، وهم بلا فرح ، وعلة بلا طبيب ، وبلاء بلا صبر ، ويأس بلا رجاء
انها قمة المحبة التي تفني المحب وتأخذه عن نفسه لمحبوبه لذا يقول الشبلي " صراط الأولياء المحبة" ، ولكثرة ما بدا على الشبلي من لوائح هذه المحبة مع أنه كان على بسطة في الجسم فقد قال له أحد أصحابه يا أبا بكر : نراك جسيمآ بدينآ والمحبة تضني ؟ فأنشد قائلآ :
أحب قلبي وما درى بدني ولو درى ما أقام في السمن
وللامام الشبلي معراج في الحقيقة يسمو الى مراق يضيق عنها حد العبارة ، ولقد عبر عن تلك المراقي السامية في مقام يسميه الصوفية الاستطالة ، حيث يؤذن للولي أن يتحدث بما أنعم الله به عليه ، فلقد سئل مرة من أنت ؟ فقال : النقطة التي تحت الباء .
وهذه العبارة رمز لفناءه في حقيقة الحقائق التي قامت بها العوالم كلها .
ولقد حدث أن العارف الحلاج ، وهو أقرب اصحاب الشبلي وأحبهم اليه ، قد صرح في هذا المقام بما لا تطيقه العامة وأشباههم ، فكان من أمره ما كان ، واذا قال العارف الشبلي : كنت أنا والحسين بن منصور شيئآ واحدآ الا أنه أظهر وكتمت .
وبقد تحدث الشبلي عن مفهوم التصوف والصوفية فأعطى لهذا المفهوم روحآ جديدة من نفس مترعة في الحب والتحقق ، فهو يعرف التصوف قائلآ : هو العصمة عن رؤية اللأكوان ، أي عن الرؤية القلبية التي يحتجب فيها الانسان بالكون عن المكون ثم يقول عن الصوفي : الصوفي منقطع عن الخلق متصل بالحق ، كقوله تعالى (واصطنعتك لنفسي ) ، قطعه عن كل غير ثم قال له : (لن تراني).
وقيل له : لم سميت الصوفية بهذا الاسم ؟ فقال : لبقية بقيت عليهم ، ولولا ذلك ما تعلقت بهم التسمية ، ومرمى عبارته : أن الصوفي حيث ينقطع عن نفسه لمولاه لا يتم له هذا الانقطاع تمامآ اذ يتبقي له جزء من انيته وحقيقته ، وهذا الجزء هو متعلق التسمية ولولاه لكان عدمآ محضآ ، والعدم لا تلحقه التسمية .
أما عن المنهج الذى سار عليه الامام الشبلي في تربية المريدين فهو ينحصر في التعلق التام والدائم بالله تعالى ، فان القلب بتعكر بأدنى شاغل عن الله .
وفي صور تطبيق هذا المنهج ماذكره الامام الشعراني من أن العارف الشبلي كان يقول لتلميذه الحصري ، وهو فى بداية أمره بالطريق : ان خطر ببالك من الجمعه الى الجمعه الثانية غير الله فحرام عليك أن تحضرني .
انها تربية الرجال لولاية الله ، فتفريغ القلب من الدنيا خطوة على طريق الوصول .
يقول الشبلي : أنا الملك أين الملوك ؟ ان الله لم يحتجب عن خلقه ، انما الخلق احتجبوا عنه بحب الدنيا ، وهو يسألمن ركن بقلبه الى الدنيا قائلآ : كيف يصح لك شيئ من التوحيد ، وكلما ملكت شيئآ من الدنيا ملكك ، وكلما أبصرت شيئآ صرت أسره .
اذن مفهوم الزهد عند الشبلي انما هو تحويل الفلب من الأشياء الى رب الأشياء ، وعندئذ لا يضير الصوفي ان يملك الدنيا بأسرها لأن قلبه ملك لله وحده .
ومن أطرف ما يروى عن الشبلي ما يصور نظرية الدنيا أنه كان عنده جماعة من الفقراء فأصابتهم فاقة وشدة، فكتب الى وزير الخليفة :
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد : وجه لنا شيئآ من دنياك ، فكتب اليه الوزير على ظهر الرقعة : يا شبلي سل الدنيا من مولاك ، فكتب اليه الشبلي : انما الدنيا شيء دني ، ولا يسأل الدني الا من الدني ، فوجه اليه الوزير عشرة آلاف درهم
انما الشبلي لم يكن مقصده في هذه الواقعة طلب الدنيا لنفسه ، وانما هو طلب حق الفقراء في مال الأمة ، اما هو ما له وللدنيا ، انه عاطف في حضرة مولاه يناجيه ويتقرب اليه ، ويقول : الهي ان هربت منك طلبتني وان قصدتك أتعبتني ، فليس لي معك راحة ولا مع غيرك انس ، فالمستغاث منك اليك .
وقال له الامام الجنيد يومآ : لو رددت أمرك على الله لاحسترحت ، فقال له الشبلي : يا أبا القاسم لو رد الله اليك أمرك لاسترحت . انه العارف المستغرق مع ربه وهو القائل : سو طرفة عين لأهل المعرفة شرك بالله .
عارف يتحدث عن نفسه وعن حاله مع الله ، وسئل متي يكون العارف بمشهد من الحق ؟ فقال : اذا بدا الشاهد وفني الشواهد ، وذهب الحواس واضمحل الاحساس .
وقال في حقيقة الذكر : ليس من استأنس بالذكر كمن استأنس بالمذكور ، وأنشد قائلآ :
ذكرتك لا لأني نسيتك لمحة *** وأيسر ما فى الذكر ذكر لساني
وكدت بلا وجد أموت من الهوى *** وهام علي القلب بالخفقان
فلما أراني الوجد أنك حاضري *** شهدت موجودآ بكل مكان
فخاطبت موجودآ بغير تكلم *** ولاحضت معلومآ بغير عيان .
فماذا نقول عن امام المعرفة ، ارتفعت فوق قمة المحبة الالهية أعلامه ، وسرت عبر آماد الدهر أنواره لتوقد مصابيح القلوب وتحدو ركب السائرين الى نهاية المطاف .
فمهما يخط القلم فلن يجف النبع ولن تتطاول الأعين لكي تحدق في عين الشمس لتحيط بجوهرها ، وانما هو شعاع من الضوء اقتبسناه لنتطلع الى أفق مليء بالنور ،
فرضي الله عن الامام الشبلي في الخالدين ، وجمعنا به فى مقعد صدق عند مليك مقتدر .