موانـــــــــــــــــــــع (مانع المعرفة):
إنَّ وجود النفسِ عمًى في عينها، بل عينُ عُميها، ولو بقي من الوجود مقدار جناح الذباب يصير حجابًا يمنع رؤيتَها شمسَ الحقيقة, فقد شاهدتُ أن النفس بسبب الوجود تَرى, على صخرة صغيرة في قلعة عظيمة مرصوصة, من البراهين القاطعة ضعفًا ورخاوة فتنكر وجود القلعة بتمامها" .... وجهلها ناشئ من رؤيتها لوجودها
فلا يصحّ للإنسان سَيرٌ إلى الحقائق عبر الطرائق إلا بعد إحكام النية، ومما يروى عن الجنيد السالك رحمه الله تعالى قوله:
" أكثر العوائق والحوائل والموانع من فساد الابتداء ؛ فالمريد في أول سلوك الطريق يحتاج إلى إحكام النية ، وإحكامُ النية تنـزيهها من دواعي الهوى ... حتى يكون خروجه خالصًا لله تعالى "
نعم , إنَّ النية ، إكسيرٌ عجيب تَقْلِب بخاصيتها العاداتِ الترابية والحركاتِ الرملية إلى جوهر العبادة"
فالنية روح، وروحها الإخلاص، فلا خلاص إلا بالإخلاص، ويمكن بالنية... عملُ كثيرٍ في زمانٍ قليل .
والأصل في تصحيح الإرادة وتعيين النية قولُه تعالى:
(ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأولئك هم المفلحون )
توهم بعض المشتغلين بالطرائق أنها تدعوهم إلى إهمال البدن كَسْرًا للنفس، وهو غير مذهب المحققين، فالإمام الشاذلي رحمه الله يقول في وصاياه: " لا تسرف بترك الدنيا فتغشاك ظلمتُها وتنحلّ أعضاؤك فترجع لمعانقتها بعد الخروج منها بالهمة أو بالفكر أو بالإرادة
أوبالحركة .... برِّدِ الماءَ فإنك إذا شربتَ الماء الساخن فقلتَ الحمد لله قلتها بكزازة، وإذا شربت الماء البارد وقلت الحمد لله استجاب كل عضو فيك بالحمد لله
يقول احد العارفين:
" إني رأيت نفسي مغرورة بمحاسنها, فقلت: لا تملكين شيئًا. فقالت: فإذًا لا أهتم بما ليس لي من البدن. فقلتُ: لابد أن لا تكوني أقل من الذباب، فإن شئتِ شاهدًا فانظري إلى هذا الذباب كيف ينظِّفُ جَناحيه برجليه ويمسح عينيه ورأسه بيديه, سبحان من ألهمه هذا وصيّره أستاذًا لي وأفحم به نفسي"
وهو الموافق للسنة فيما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه
فكان رأي الإمام الغزالي رحمه الله.ومن نماذج خطابه العقلي الاستدلالي في الطريقة ما يأتي:
" يا أيها الغافلُ المنغمس في الأسباب! إنّ الأسبابَ حجابُ تصرُّفِ القدرة؛ إذ العزة والعظمة تقتضيان الحجابَ، لكن المتصرِّف الفعال هو القدرةُ الصمدانية" .
" هذه الوسائط لإظهار عزة القدرة وحشمة الربوبية
وضِعَت الأسباب لتتوجه الشكاوي إليها" .
"التوحيد والجلال يردّانِ أيدي الأسباب عن التأثير الحقيقي" .
"التعلّقُ بالأسباب سببُ الذلة والإهانة" .
"إنك موزون بين موازين...فَتَنَبَّهْ وأقم الوزن بالقسط.. والحال أنك تلهو كمجنون بين مجانين" .
ويحاور المبتلى بأحد الأمراض الأربعة المضلَّة، فينصحه بعلاج مرض اليأس بـ }لاتقنطوا من رحمة الله{ وعلاجِ مرض العُجْب بتذكُّر عدم مالكية نفسه لشيءٍ ، وعلاجِ الغرور بالنظر الواعي إلى أعمال الأسلاف وأمجادهم، وعلاجِ سوء الظن بردِّ العيبِ إلى نفس المسيء ظنه .
كما وقد بحث الإمام الغزالي مسألة التحصيل من غير معلِّم، ثم أجابَ عن المسألة بقوله:
"اعلم أن الأستاذ فاتحٌ ومسهِّلٌ والتحصيلُ معه أسهل وأروح، والله تعالى بفضله يمتن على من يشاء من عباده فيكون هو معلّمهم " .
وقال أيضًا:
" اعلم أن العلوم التي ليست ضرورية, وإنما تحصل في القلب في بعض الأحوال, تختلف الحال في حصولها: فتارة تهجم على القلب كأنه ألقي فيه من حيث لا يدري، وتارة تكتسب بطريق الاستدلال والتعلم، فالذي يحصل لا بطريق الاكتساب وحيلةِ الدليل يسمّى إلهامًا، والذي يحصل بالاستدلال يسمى اعتبارًا واستبصارًا"
ويقول الأمير عبد القادر الجزائري:
" تنفع أكملية الشيخ من حيث الدلالة الموصلة إلى المقصود, وإلا فالشيخُ لا يعطي المريد إلا ما أعطاه له استعداده, واستعداده منطوٍ فيه وفي أعماله" .
على أنَّ ما وُفِّقَ إليه الأستاذُ النورسي رحمه الله من الاختصاص, لا ينبغي أن يصرف المتعلم عن المربي إن وجد. يقول الشعراني رحمه الله:
" كانت صور مجاهداتي لنفسي من غير شيخٍ, أنني كنتُ أطالع كتب القوم كرسالة القشيري وعوارف المعارف والقوت لأبي طالب المكي والإحياء للغزالي وأعملُ بما ينقدح لي من طريق الفهم, ثم بعد مدة يبدو لي خلاف ذلك فأترك الأمر الأول وأعمل بالثاني, وهكذا فكنت كالذي يدخل دربًا لا يدري هل ينفذ أم لا, فإن رآه نافذًا خرج منه وإلا رجع, ولو أنه اجتمع بمن يعرِّفه أمْرَ الدرب قبل دخوله لكان بيّن له أمْرَه وأراحه من التعب, فهذا مثال من لا شيخ له" .
ويقول الشيخ أحمد زروق في قواعده:
" أخْذُ العِلْمِ والعمل عن المشايخ أتمُّ من أخذه دونهم" .
وينبغي أن لا يُنسى أثر الوالدين في تربية النشئ،فيذهب احد المشايخ للقول في هذا الشأن
" أقسم بالله, إن أرسخ دَرْسٍ أخذتُه، وكأنه يتجدد عليّ، إنما هو تلقينات والداي رحمهما الله ودروسهما المعنوية، حتى استقرت في أعماق فطرتي وأصبحت كالبذور في جسدي، في غضون عمري الذي يناهز الثمانين" .
فللاباء الفضل الاكبر على الابناء في التعلم والتخلق وسلوك طريق التحقق
والله اعلم