الهدهد السليماني
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70- 71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعةٍ، وكل بدعةٍ ضلالةٍ، وكل ضلالةٍ في النار، وبعد.
المعلم:
أيها الأحبة: إننا اليوم على موعد مع معلم عظيم، نقتبس من سيرته ما يضيء لنا ظلمات الطريق، ونتعلم منه سبيل النهضة والحضارة والرقي وبناء المجتمع المنشود، ستقفز أفكاركم حتمًا لتبحث عن تلك الشخصية الفذة بين شموس الكون من الأنبياء والمرسلين، أو بين النجوم الساطعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو بين فرسان الإسلام وأبطاله.
ولكن الشخصية الفذة التي نستضيفها اليوم من صفحات الماضي البعيد ليست إلى هؤلاء أو هؤلاء أو هؤلاء، وإنما هو مخلوق لا يعبأ له بين الأنام، ولكنه صار معلمًا لما سار في موكب الحق ولزمه، إنه هدهد سليمان عليه السلام.
نعم إنه الهدهد، ذلك المعلم الذي يجعلنا نقف عند سيرته منبهرين نستخرج منها الدرر واللآلي والكنوز، فهلم أيها الأحبة لنصحب في جولتنا هذه الهدهد السليماني المعلم.
الهدهد الغائب:
تبدأ تلك الجولة من مشهد الاجتماع العظيم لسليمان عليه السلام بجنوده، وما أدراك من جنوده؟ إنس وجن وطير ووحش، لكنه قد افتقد أحدهم يبدو أنه معروفًا بعينه لديهم: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} [النمل: 20]، وهنا كان لابد لسليمان من الحزم مع ذلك الجندي الذي غاب بغير إذنه، فتوعده بالعذاب أو الذبح إن لم يكن له عذر لغيابه: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [النمل:21].
سحر الاتصال:
لكن غياب الهدهد لم يكن طويلًا: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [النمل:22]، فأتى الهدهد إلى مجلس سليمان وهو يعلم يقينًا أن في انتظاره الوعيد، وما إن رأى سليمان عليه السلام حتى ابتدره بما يسكن غضبه ويفتح شهيته للاستماع: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل/22].
لقد أجاد ذلك الهدهد السليماني فن التخاطب مع الآخرين، فكانت بداية حديثة مشوقة تجعل النفس تلين للاستماع، إن هذا السلوك مفتقد بيننا إلى حد بعيد، لا نعرف كيف نخاطب الناس، لا نعرف ما يقال وأين يقال وفي أي وقت يقال، وإن كثيرًا من مشكلاتنا تكون بسبب سوء انتقاء الكلام، فرب كلمة لغضبان تزيده غضبًا، ورب كلمة لحزين تزيده حزنًا، لكن هذا الهدهد يملك من مهارات الخطاب ما يفتح به القلوب.
العلم يرفع صاحبه:
{أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ}، لقد كان لسلطان العلم لدى الهدهد ما جعل سليمان الحكيم ينصت ليعلم ما ذلك العلم الذي يفتقده وهو موجود لدى الهدهد، فانظر رحمني الله وإياك ما فعل العلم بالهدهد، جعل نبيًا من أنبياء الله وصفوة خلقه يستمع ليتعلم من مخلوق ضعيف، وهكذا العلم أيها الأحبة يرفع أصحابه، كما قال الله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11].
الدقة في نقل الأخبار:
ثم ها هو الهدهد السليماني المعلم يصرح على الفور بسبب تغيبه عن الاجتماع، لقد أتى بأخبار عظيمة، لكنها ليست كتلك الأخبار التي نبثها في الآفاق دون يقين أو برهان، فتصيب من أعراض الناس وتأكل في لحومهم، لقد أتى الهدهد بأخبار يقينية لأنه يعرف قيمة أن يكون النقل صحيحًا لا يعتمد على الظن والتخرصات: {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ}.
لقد أتى بخبر يقيني من بلاد اليمن، خبر هائل عظيم، لكنه مبني على أساس الحقيقة، فما أحوجنا اليوم من التريث في نقل الشائعات، كلمة تخرج من فم أحدهم لا يلقي لها بالًا وليس لها مستند من الواقع في دين فلان، أو في عرض فلان، أو في أخلاق فلان، ثم تطير الكلمة وتنتشر في الآفاق، فالحذر الحذر من الشائعات، وليتق كل امرئ ربه فيما يقول أو ينقل.
النبأ العظيم:
وهنا فجر الهدهد المفاجأة الهائلة، والتي كانت سببًا في تغيبه عن اجتماع سيده:{ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل: 23]، وكأن الهدهد قد استنكر ولاية المرأة على الرجال، فهي بذلك تسير في عكس اتجاه الفطرة البشرية، وهذا قد استهجنه رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما علم بولاية ابنة كسرى على الفرس، فقال: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) [رواه البخاري، (7099)].
فالمرأة تمنع من الولاية العظمى وما على شاكلتها، لكنها تتولى ما دون ذلك، كما ولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه الشفاء بنت عبد الله أمور الحسبة في السوق، فشريعتنا محكمة، ومنهجنا وسطي بين الغلو والتفريط.
ولكن هل هذا هو الخبر الهائل الذي منع الهدهد أن يحضر الاجتماع السليماني؟ لا، فلقد كان الأمر أعظم من ذلك بكثير، أمر يتعلق بأعظم جريمة ترتكب على ظهر هذه البسيطة.
الجريمة العظمى:
{وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [النمل:24]، إذًا فهذا هو ما جعل الهدهد يبطئ عن سيده، تلك الجريمة العظمى التي رآها بعينه، لقد رأى الشرك بالله، رآهم يتوجهون بالعبادة إلى غير الله تعالى الذي لا معبود بحق سواه، لقد غار الهدهد على جناب التوحيد، لإنه يعلم أنه من من جريمة على وجه الأرض هي أعظم من الشرك بالله.
لقد سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أى الذنب أعظم عند الله؟ قال ( أن تجعل لله ندا وهو خلقك) [متفق عليه]، فالشرك إذًا أعظم من الزنا والخمر والعقوق والتولي يوم الزحف ومن جميع الذنوب، لذا كان الذنب الوحيد الذي لا يغفره الله تعالى إلا بالتوبة والرجوع عنه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48].
لقد كان الهدهد يغار على التوحيد، ويعلم أن الله سبحانه وتعالى هو وحده الذي يستحق أن يتوجه إليه العباد بالسجود وسائر العبادات، فهو رب العباد وخالقهم ورازقهم ومحييهم ومميتهم، وخيره إليهم نازل، ويعلم ما تخفي الصدور، ويرى ويسمع دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، فقال: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [النمل: 25].
الهدهد الإيجابي:
ماذا نقول وبم نتحدث عن ذلك الهدهد الإيجابي، الذي تخلص من أسر السلبية والقعود، لقد انطلق الهدهد بطاقة ذاتية ليدل على الشر والفساد بما يليق بإمكاناته كطائر لن يتمكن من تغيير المنكر، فلا أقل من أنه دل عليه، وكان سببًا في إسلام قوم سبأ ودخولهم في دين التوحيد.
لقد عرف أن له دورًا مع أنه غير مكلف ولن يحاسبه الله على صمته عن المنكر، لكنه هدهد إيجابي، لا يرضى بأن يكون المجتمع من حوله غارقًا في لجج الحيرة والبعد عن طريق الله عز وجل، أراد الإصلاح فكان الإصلاح، إن ذلك الهدهد هو حجة على كل من استسلم للراحة والدعة بحجة ضعف إمكاناته، فالكثير إلا من رحم الله يقولون ماذا نفعل من أجل أمتنا ونحن لا نملك ما نخدم به هذه الأمة وهذا الدين؟
فنقول لهؤلاء أولا: إنكم أقوياء، لستم ضعفاء كما تظنون، تستطيعون الكثير، لقد سخر الله لكم الشمس والقمر والفلك في البحار، وسخر لكم البعير يقوده الصبي الصغير، وخلق لكم الأنعام لتركبوها وزينة، والنجوم تزين سماءكم وتهتدون بها في ظلمات البر والبحر، ووكل إليكم الامانة العظيمة، أمانة التكاليف والقيام بحق العبودية، ثم تقولون بعد ذلك أنكم ضعفاء؟! إن هذا لأمر عجاب.
إن عقولكم وأيديكم هي التي صنعت أجهزة الحاسوب، وأجهزة الاتصالات، وسائر التقنيات، فكيف يقول الإنسان أنا لا أستطيع؟
ونقول لهم ثانيًا: من أراد أن يكون له دور في خدمة أمته والنهضة بها حتمًا سوف يجد له دورًا، تمامًا كما فعل ذلك الهدهد الإيجابي، الذي بحث له عن دور يناسبه في خدمة العقيدة، فدل على موطن الشرك لمن يستطيع التصدر له ومواجهتته، فلله دره من هدهد.
لقد تحرك ذلك الهدهد بانطلاقة ذاتية دون انتظار أوامر أو تكليف، وبما لا يضر الصالح العام أو يتعارض معه، فكان سببًا في دفع الفساد والشرك وإحلال الخير والتوحيد.
ثم تراه بعد كل ذلك لا يتقاعس عن إتمام مهمته، فكان رسولًا إلى قوم سبأ، امتثالًا لأوامر نبي الله سليمان: {اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} [النمل: 28].
ولم يستثقل أن يضرب بجناحيه هذه المسافة البعيدة والتي أتى منها منذ قليل، لكي يضرب مثالًا فذًا في الإيجابية والفاعلية، وعدم الركون إلى الدعة والراحة.
الهدهد وصناعة النهضة:
أيها الأحبة: إن ذلك الهدهد المعلم قد علمنا كيف تكون صناع النهضة، لقد جسد لنا تلك المنظومات الثلاث التي ترتكز عليها نهضة أمتنا، لكي تسترد مكانتها السامية التي فقدتها، فإن هذه الأمة تحتاج إلى الإصلاح في ثلاثة جوانب بها تسكن القمم، وجدناها كلها لدى ذلك الهدهد:
الجانب الأول: الإيمان والعقيدة الصافية
فاما الجانب الأول فهو الإيمان والعقيدة الصافية، لن تقوم لهذه الأمة قائمة إلا إذا تمثلت التوحيد واقعًا في حياتها، فتكون أمة لا تتوجه بالعبادة إلى ربها، تنقاد قلبًا وقالبًا إلى شريعة نبيها صلى الله عليه وسلم، تنبذ الشرك بشتى صوره، لأن التوحيد هو سبيل التمكين والأمن والأمان، قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55]
وهذا ما وجدناه لدى ذلك الهدهد الذي ينبذ الشرك ويقد لله قدره في استحقاق العبودية، وفهم معنى لا إله إلا الله بأنها لا معبود بحق إلا الله، وغار على عقيدة التوحيد.
الجانب الثاني: القيم والأخلاقيات
وأما الجانب الثاني من الجوانب التي ترتكز عليها نهضة هذه الأمة فهي القيم والأخلاقيات، فلكي تنهض أمتنا وتسترد ما سلب منها لابد وأن تضيف إلى تلك الإيمانيات أخلاقيات وقيم الإسلام المشرقة، فهي إفراز طبيعي لها، تلك الأخلاق التي امتدح الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]
تلك الأخلاق التي بعث النبي صلى الله عليه وسلم بإتمامها، فقال: (إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق) [صححه الألباني في صحيح الجامع، (4114)].
تلك القيم والأخلاقيات التي دخل مجاهيل إفريقيا بسببها الإسلام عندما رأوا من أخلاق التجار المسلمين ما لم يألفوه من مكارم الأخلاق وفضائل السلوكيات.
تلك القيم والأخلاقيات التي نظمت العلاقة بين العباد وبعضهم كأسمى ما تكون العلاقات، تلك القيم والأخلاقيات التي وجدت مكانها حتى مع الحيوانات، فتجد شريعتنا الغراء قد وضعت قبل البشر قوانين حقوق الحيوان، فها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بينا رجل بطريق ، اشتد عليه العطش فوجد بئرا فنزل فيها فشرب ، ثم خرج ، فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش ، فقال الرجل لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذى كان بلغ منى ، فنزل البئر ، فملأ خفه ماء ، فسقى الكلب ، فشكر الله له ، فغفر له) . قالوا يا رسول الله وإن لنا فى البهائم لأجرا فقال: (فى كل ذات كبد رطبة أجر) [رواه البخاري، (2466)].
وأوصى بالذبيحة خيرًا: (إن الله كتب الإحسان على كل شىء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح وليحد أحدكم شفرته فليرح ذبيحته) [رواه مسلم، (5167)].
ولقد وجدنا تلك القيم والأخلاقيات لدى الهدهد السليماني، الذي تحرى الدقة واليقين فيما ينقله من أخبار، مؤكدًا بذلك على قيمة الأخلاق والمبادئ السامية.
الجانب الثالث: الإيجابية والفاعلية
وأما الجانب الثالث فهو الإيجابية والفاعلية، فنحن لا نريد ذلك المؤمن العابد المنزوي في محرابه فحسب مكتفيًا بذلك، بل نريد المؤمن التقي النقي الفعال الذي يتحرك لنهضة أمته، قد تعدى نفعه إلى غيره، المؤمن الذي يترك أثرًا له في الدنيا، حتى إذا مات أشاروا إلى قبره وقالوا: مر... وهذا الأثر.
نريد ذلك المؤمن الذي يربط بين طريقي الدنيا والآخرة ويجعلهما طريقًا واحدًا أوله في الدنيا وآخره في الجنة، فتراه في عمله متقنًا وفي دراسته ناجحًا يتطلع إلى العلى، ينشد القمم، وهو مع ذلك تقي ورع زاهد.
فالمرء كما قال الرافعي: "إذا لم تزد شيئًا على الحياة كنت زائدًا عليها" [وحي القلم، مصطفى صادق الرافعي، (2/86)]، ومن لم يجعل لنفسه أثرًا قبل مماتهكان كما قال الحكيم: "الناس يولدون فيعيشون ثم يموتون"، فكان ممن ولد فعاش ثم مات، هكذا دون أن يسجل عنه التاريخ غير تلك الكلمات.
وها نحن قد وجدناها أيضًا في قصة ذلك الهدهد الإيجابي، الذي عرف دوره وأداه دون تكليف وبدافع ذاتي يحسد عليه، فلنحن أمة الإسلام أحق بالإيجابية والفاعلية من ذلك الهدهد، ولقد كانت أمتنا في مجدها قد ذخرت بكوكبة من الفرسان الذين كان لهم أثر يدل عليهم في حياتهم وبعد مماتهم.
رجال لهم أثر:
آثروا ترك بصماتهم في الحياة، فخلد التاريخ ذكرهم، صنعوا حضارة أمتهم، فكانت نهضتهم خيرًا ونورًا على العالمين، وكانوا المصابيح التي استضاء بها الغرب في ظلمته الظلماء، نأخذ منهم واحدا فقط فلو ذكرناهم جميعا ما اتسع المقام في مئات الخطب والدروس:
إنه عالم البصريات الشهير الحسن بن الهيثم:
ولد في مدينة البصرة بالعراق، درس الطب والفلك، والهندسة والرياضة، والطبيعة.
أهم مؤلفاته في البصريات كتاب "المناظر"، درس فيه نظرية انكسار الضوء وانعكاسه في البيئات الشفافة كالماء والهواء الذي بقي مرجعًا لهذا العلم في أوروبا حتى أواخر القرن السابع عشر، والذي كاد فيه أن يتوصل إلى المبدأ الطبيعي الذي يقوم عليه المجهر والمرصد "المنظار المكبر والمنظار المقرب".
له مؤلفات في المكتبة الأهلية في باريس ومخطوطات يعالج فيها فروعًا للهندسة، وله مخطوطات في مكتبتي ليدن وبودلي في أكسفورد، وله 43 كتابًا في الفلسفة والطبيعة، و25 كتابًا في العلوم الرياضية و21 كتابًا في الهندسة، و20 كتابًا في الفلك والحساب.
وقد ذكر أن مجموع ما وصل إلينا من كتبه قد بلغ مائتي كتاب، وكان في كل كتبه رحمه الله يفتتحها بهذه الجملة الرائعة: "أنا ما دامت لي الحياة فإني باذل جهدي وعقلي مستفرغ طاقتي في العلم لثلاثة أمور:
1. إفادة من يطلب العلم في حياتي وبعد مماتي.
2. ذخيرة لي في قبري ويوم حسابي.
3. رفعة لسلطان المسلمين".
كرر عليَّ حديثهم يا حادي فحديثهم يجلي الفؤاد الصادي
الواجب العملي:
وكما عودناكم أيها الأحبة، فلن ندعكم حتى نضع بين أيديكم توجيهات عملية يسيرة حتى نكون من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه:
1- نق عملك من شوائب الشرك والرياء، وأخلص نيتك لله في كل عمل وابتغ به وجه الله تعالى.
2- في كل تعامل لك مع الناس عاملهم بتلك الأخلاق التي تتمنى أن يعاملوك بها.
3- ابحث لك عن دور في خدمة دينك، ولا تستحقر شيئًا من المعروف أو سبل الدعوة فربما كانت سببًا لنجاتك، ولو اقتصر الأمر على أن تعلم أهلك وأولادك أمور دينهم وتربيهم على طاعة الله فقد وفيت.
4- أتقن عملك حيثما كنت، وتعبد إلى الله به باحتسابه عند الله عز وجل، وأنك تتقنه وتنبغ فيه لنهضة أمتك.
منقووول
استوحيت فكرة الموضوع من اميل شيخنا و استاذنا الفاضل الهدهد السليماني
ووجدت هذا الموضوع الذي اعجبني كثيرا و استفدت منه كثيرا
و الله يحفظ شيخنا و استاذنا الهدهد السليماني و كل من في منتدانا الطيب
و السلام عليكم و رحمة الله تعالى و بركاته