نظرة في شعر الحضرة :
نؤكد بداءة أن العلاقة وثيقة بين شعر “ الحضرة “ و مفهومها النظري عند كبار الصوفية باعتبار أن أشعار السماع هي في حقيقتها تظهير و
ترجمة لما تم التعبير عنه نظريا عن الحضرة..و هذا معنى طريف إذ يصبح كل من النظرية و التمثيل الشعري هما طرفا حلقة واحدة عامها خاصها و
بدايتها نهايتها..و إذا كنا أشرنا فيما قبل إلى المقومات الروحية التي حكمت التصوف الطرقي و صاغت تعبيراته السلوكية و التكوينية ....فإن
باستطاعتنا نمذجة هذه المسلكيات وفق الأطر المرحلية التالية :
لوائح / شريعة |
وجد / علم اليقين / محاضرة.. |
عمل الفروض/ المذاكرة في العلم |
الفناء في الرسول |
الظاهر |
لوامع / طريقة |
تواجد / عين اليقين / مكاشفة.. |
الورد |
الفناء في الشيخ |
الوسط |
طوالع / حقيقة |
وجود / حق اليقين / مشاهدة.. |
الحضرة و السماع |
الفناء في الله |
الباطن |
من هنا تصبح حضرة السماع ، و هي مناط لقاء اليوم ، موئلا للحظة النهاية في معراج السالك و انتقاله بين المراتب الثلاث المشار إليها و يكون
الشعرالمردد تحقيقا للمعاني العلمية و العملية .
و لعل توظيف شعراء ذوي مشارب صوفية مختلفة يؤكد دور الزوايا في صهر الموروث الأدبي في بوتقة واحدة تزول فيها الفوارق.....هكذا تتساكن
أزجال الششتري بشعر اليوسي و قصائد أبي مدين بتواشيح و أدوار عبد الغني النابلسي و خمريات عمر ابن الفارض بتغزلات سيدي محمد الحراق
الحسني...هذا و إني سأعرض أمام حضراتكم جملة من النصوص الصوفية التي تتخذ من موضوعة الحضرة مدارها الدلالي و بؤرتها التعبيرية ،
متنكبا عن أغراض أخرى ليست من شرطنا في هذه الكلمة..
و أبادر إلى القول بأن توظيف مصطلح الحضرة بالدلالات المشار إليها سابقا يكاد يجد طريقه إلى الشعر الصوفي في مجال السماع منذ القرون السادس
و السابع و الثامن للهجرة ، حيث تضمن المصطلح التعبير عن تجربة الشاعر و معاناته الذاتية في الوصول إلى الله و التحقق به ، حتى إذا تم ذلك
كانت الحضرة مجلى للقاء و معرضا........هكذا نستحضر أشعار أبي الحسن الششتري ( ت 668 ه) الذي أولى الحضرة فسحة كبيرة في إبداعه
، و أول ما يثيرنا هنا تنصيصه على أن الفناء في الحضرة لا يتحقق إلا لمن فني عن السوى و تجرد عن الأغيار
ذي الحضرة ما هي تفتح لكل من نقر
إلا من جاء عارف بالأصل و الخبر
و عين قلبي شاخص لشمس ذا النهر
ذم تكون فاني في الحضرة يا فلان
ما تنطق الأواني إلا بما سكن
و عن الحضرة و تداعيات الحضور الإلهي بقول :
تدخل حضرة صفائي جوار الحبيب
الله الله معي حاضر في قلبي لا يغيب
و هي بهذه المعاني حضرة الأحدية المتفردة :
سقاني من هويت خمرا بها الله قد رفع شأني
و أطلعني على حضرة ما لها في الوجود ثاني
و يبدو أن الششتري كان شديد الوعي بأن الحضرة و إن كانت تجربة ذاتية صرفة لدى المريد السالك فإن هذا المريد يبقى في حاجة لشيخ السلوك
الذي.........
أطلب لشيخك كويس يسقيك خمرا رقيقه
و كن في شربك كويس تصل بها للحقيقه
تحضر في صدر المحاضر مع كل مبرور موافق
و إن طلبت الإعاده أدنو لهذا و رافق
و لعل ما يثيرنا هنا هو رمزية الخمر التي تم استدعاؤها هنا للدلالة على تلك المواجد و الحالات التي تنساب في أعماق الصوفي ، و الحقيقة أن نعجم
التصوف بما يتضمنه من مصطلحات السكر – الصحو – النديم – الشرب – الكأس...تؤكد قيمة الرمز الخمري كما تفسر شيوع دلالاته...يقول أبو
مدين الغوث رضي الله عنه
دارت علينا كؤوس في حضرة المحبوب
و أهل المعاني جلوس و من دخل يشرب
و لا تطيب النفوس إلا لمن يقرب
و في مقطع آخر ينصرف فيه الخطاب إلى جماعة الفقراء ، و هي الفئة التي حظيت باهتمام كبير من لدن أبي مدين و أشير هنا فقط إلى قصيدته
الرائعة ، ما لذة العيش..،
يا معشر الفقرا طبيبي حكيم
اطلعني على حضرة كان لي نديم
سقاني مزيد خمره من خمر قديم
و على اعتبار أن السكر يستلزم صحوا ن فإن التمييز قائم بين صحو قبل السكر و صحو بعده ، أما الذي قبل السكر فإنه تفرقة محضة ، و هو ليس
من الأحوال الصوفية و أما الذي بعده فيسمى الصحو الثاني أو صحو الجمع ، و بهذا المعنى أي الرجوع إلى الوحدة يقول أبو مدين :
غرست في حضرتي شجرة التوحيد
الأصل في قبضتي و الفرع صار يزيد
إنها بهذا الاعتبار حضرة القداسة السامية و عنوان التنزيه......
يا لها من مجالي حضرة قدوسيا
يبدو لي فيها سري فقولوا لي هنيا
و بمعاني السمو و الصفاء تنساب أشعار السماع لتعلي من شأن الحضرة و تجعلها مجال مخصوصا على من تحقق بالمعرفة الصوفية فجمع بين
الاصل الحدسي و الخبر النقلي...فصح له الكشف الحجب بتجلي المحبوب..و هكذا يزيد الصوفي المغربية سيدي محمد الحراق الحسني من تنويع
دلالات الحضرة فيتجاوز بها أحيانا الرمز الخمري ليقصرها على التودد للذات العلية التي تعالت عن الأبصار و إن فاضت أنوار وجودها.....
يا من بغى وصال حبيبو افن تشوف نور الحضرا
و ارقا على الأكوان تصيبو يغنيك عنهم بنظرا
من كان ذا الحبيب نصيبو من كل باس حالو يبرا
ثم يتفنن في الكشف عن معاني الوصال و الاتصال بالمحبوب ، بتلويحات تبدو من حيث بناؤها الخارجي ذات سمة حسية خالصة – و إن تجاوزت لغة
الجسد - لكنها تتجاوز المحسوس في حركة دائبة صوب المعاني العشقية بوصفها تجليات ينكشف فيها الحب الالهي في شموله و تجرده يقول :
لاين مقصودك فالذي يبقا فالحضرا معاك
زاهي بوصولك لا غنا دايم والع بيك
و للإشارة فهذا قسم من زجليته الشهيرة كلي فوجودك التي نظمها سيدي محمد الحراق على قياس رائعة سيدي قدور العلمي مزين وصولك..و هي
قصيدة لا نخطئ فيها الحس الصوفي أسوة بغيرها من أشعار
العلمي ، غير أن كل تلك الإشارات الخمرية و التغزلية تنحل في النهاية لتؤول حنينا دافقا إلى العرف الأقدس و النفس الرحماني الذي يتخلل الوجود
و يسري في أعيانه :
من لي من أحداق ذوابل الأجفان
قلبي لها إحداق في حضرة الرحمن
و هكذا فلا عجب إن أضاءت بنور هذه الحضرة الأكوان و استنارت جميع العوالم.....
هذه الحضرة منورة منها سر الله بان باعلامو ظاهر
كاع مواليها مخمرا شدو الكاس و دوروه في كل محاضر
أمن نفس غير خاسرا كان انت شكّيت زد و رواح تباشر
سلم يا من شاف ما جرا هذا سر الله بان باعلامو شاهر
سلم يا من شاف و اشتفى قصر يكفى كان نتا خاطي طرقنا عقلك تالف
أجي تنظر حضرة الصفا و ارجع خطفا و اذا عجبك حالنا تولي و توالف
ما زال القنديل ما اطفا ذ الوقت عفا و تركب بعقولنا على راس الشايف
نسأل الله القبول لمحقق هذا الموضوع وان يفتح عليه فتوح العارفين وان يجعله من خاصة الخاصة
أمين وصل اللهم وسلم على سيدنا ومولانا محمد النبي الامي وعلى اله