سئل سيدنا رضي الله عنه عن النفس
و الروح و القلب و السر، هل هم أسماء لمسمى واحد، أو كل واحدة من ذلك على
حدة ؟ فإن قلنا أسماء لمسمى واحد فما فائدة التعدد، وإن قلنا كل واحد
منها على حدة، فالخطاب إنما هو للروح وهي التي تتنعم و تذوق ألم العذاب ؟
فأجاب رضي الله عنه:
اعلم أن هذه الأسماء المتعددة إنما هي
لمسمى واحد لا تعدد فيها ، و إنما تتعدد أسماء الروح لتعدد مراتبها ، و
بيان ذلك أن الله تبارك و تعالى خلق الروح الإنساني من صفاء صفوة النور
الإلهي فلم تزل في غاية الصفاء كاملة المعرفة بالله تعالى مستقرة في
محبته ووحدانيته عارفة بأسمائه و صفاته ، لا تلتفت لغيره و لا تبالي
بسواه.
ثم أسكنها قارورة الجسم الإنساني فاكتسب الجسم بحسب استقرارها فيه
حياة و إدراكا ، و تكوِّن في الجسد بحسب الروح نفسا ، وهي البخار اللطيف
الحامل لقوة الحياة باجتماع الروح و الجسد ، فإن افترقا انعدم وجوده أي
النفس وهو البخار اللطيف ، و هذا الشيء المعبر عنه بالنفس وهو منبع الأخلاق
الذميمة و الأوصاف الفاسدة السقيمة ما دام حكمه مستوليا على العبد .
فالروح أسير في يده لا يسعى إلا في مرضاته وهو في غاية الهلاك و
البعد عن الحضرة الإلهية رغم قوة نورانية الروح بسبب استقراره في الجسم
والتلطخ بأدرانه و أوساخه ، فاستولى عليه حكم النفس الخبيثة و صار فاسقا
عن أمر ربه ، و ذلك آثار حكم الجسم ، لأن الجسم متكون في محل الظلمة وهو
الماء و التراب وكان في غاية الكثافة.
إذا فالروح هو أصفى الجواهر و أعلاها لأنه من صفاء النور الإلهي
إنما اكتسبت الظلمة في عالم الجسم، فما دامت الروح ميالة إلى المعاصي و
المخالفات و متابعة الهوى تسمى في هذا المقام بالنفس الأمارة بالسوء
فإذا طرا عليها من الأنوار الإلهية ما
يخرجها عن بعض ما كانت متصفة به من المعاصي و المخالفات عن طريق التوبة ،
أخذت في توبيخ نفسها و لومها عما فرطت فيه من الحقوق الإلهية ،و الزجر و
التوبيخ الشديد للرجوع إلى باب الجواد الكريم ، فهي في هذا المقام تسمى
النفس اللوامة لأنها تلوم نفسها على ما فرطت فيه من حقوق الله تعالى.
ثم إذا طرا عليها من الأنوار ما يقضي
بإخراجها عن كثائف المعاصي و المخالفات المعبر عنها بالكبائر ، وبقي عليها
لطائف المخالفات و دقائقها ، تسمى في هذا المقام قلبا لأنها شمت رائحة
الحضرة القدسية ، فتارة يهزها شم تلك الروائح القدسية فتحن شوقا إلى ما
كانت عليه في وجودها الأول ، وتارة تغلب عليها كثافة ظلمات طبيعتها
المكتسبة من استقرارها في الجسم ، فتحن إلى مقتضيات شهواتها و متابعة
هواها ، فلأجل تقلبها في هذين المقامين سميت قلبا .
ثم إذا فاض عليها من الأنوار الإلهية من
حضرة القدس ما يقضي بكمال طهارتها من جميع المخالفات كثيفها و لطيفها و
دقيقها و جليلها ، و رسخت قدمها في العمل لطاعة الله و التوجه إليه و سكن
اضطرابها من ذلك تسمى في ذلك المقام النفس المطمئنة ، لكنه بقي عليها ميل
لغير الله و إن كان حلالا ، وبقي فيها أثر للاعوجاج وبقية ضروبٍ من
التدبير و الاختيار في مصالحها .
ثم إذا فاض عليها من الأنوار الإلهية ما
يقضي بهدم جميع أبنية اختياراتها و مألوفاتها بالرجوع إلى الله تعالى
عارية عن كل من سواه ، فهي في هذا المقام تسمى النفس الراضية لكنه بقيت
فيها آثار من الأبنية التي تهدمت قبلها ، و تلك الآثار كآثار الجروح إذا
برئت فتبقى فيها بقية كزازة عن حضرة الحق.
ثم إذا فاض عليها من أنوار حضرة القدس ما
يقضي بكمال طهارتها من آثار الأوهام و أبخرة المحسوسات و قُطع ذلك عينا
وأثرا ، وانمحق وجودها وانعدم شهودها ، و هذا الفيض هو النور الأكبر
المعبر عنه في اصطلاح العارفين بالفتح الأعظم ، فهي تسمى في هذا المقام
بالنفس المرضية
إلا أنه انعدم منها الحس و الإدراك فلا علم و لا رسم و لا اسم إلا
مشاهدة الحق بالحق في الحق للحق عن الحق ، فهذا هو المعبر عنه بفناء
الفناء ، و هنا يكون قد كمل رضا خالقها عنها و لذا تسمى المرضية .
فإذا فاض عليها من أنوار حضرة القدس ما
يقضي لها بتمييز المراتب وتفصيلها و معرفة خواصها واستحقاقاتها ، و
إحاطتها بمقتضيات المراتب و لوازمها جملة و تفصيلا تسمى في هذا المقام
النفس الكاملة .
ثم إذا فاض عليها من أنوار حضرة القدس
ما يقضي بهدم بناء الإشارات ودك محسوسات العبارات واتصفت بذلك ظاهرا و
باطنا وأفاض عليها من الأنوار بعد ذلك ما يقضي لها بما نسيته من الصفاء
الأول صارت في هذا في مقام الإخفاء ، لأنها بعدت عن العقول وأفكار
الفهوم .
ثم بعد هذا هي دائمة الترقي في المقامات بلا نهاية في طول عمر
الدنيا ، و في مدة البرزخ ، و في الخلود الأبدي في الجنة لا ينقضي ترقيها و
لا يتناهى فهي في كل مقام ينكشف لها من صفات الله و أسمائه و أسراره و
أنواره و فتوحاته و فيوضاته مايكون بالنسبة للمقام الذي ارتقت عنه كالبحر
للنقطة في الاتساع ، وكنسبة ضياء الشمس لسواد الليل في الصفاء ، ففي
المقام الذي ترتقيه فوق مقام الإخفاء تسمى سرا لشدة بعدها عن مقام الإخفاء
، و في المقام الذي فوق مقام السر تسمى سر السر و في المقام الثالث تسمى
سر سر السر و هكذا كلما ارتقت مقاما تأخذ فيه أسماء السر إلى ما لا نهاية
له.
و هكذا يتبين لك أن هذه الأسماء المتعددة إنما هي لمسمى واحد وهي الروح، إنما تغيرت أسماؤه لتغاير مراتبه.
و أما قول السائل من المخاطب هل الروح أو النفس أم الجسد ؟
فالجواب:
أن المخاطب بالخطاب الإلهي التكليفي إنما هي الروح لأنها هي
القلب، و هي النفس كما قدمنا في مراتبها وليس الجسد هو المخاطب ، و إنما
خلق مقرا للروح و مطية لها تركب عليه لتؤدي به الحقوق التي كلفها خالقها
بها ، فهي المكلفة وهي المأخوذ عليها الميثاق ، وهي المثابة و المعذبة ،
وهي المنعمة و المنغصة ، إلا أنه لا ينالها عذاب و لا نعيم إلا بواسطة جسم
وذلك اختيار إلهي فقط ، فهي مركبة في هذا الجسم تعذب بعذابه و تتنعم
بنعيمه.
وبعد الموت تركب في جسد آخر تدرك بسببه النعيم و العذاب ، يشهد
لذلك قوله صلى الله عليه و سلم ": أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر " و
قوله صلى الله عليه و سلم : " إذا مات المؤمن أعطي نصف الجنة " الحديث ، و
المراد بهذا التنصيف نصف النعيم في الجنة لأن كمال النعيم في الجنة لا
يكون إلا باجتماع الروح و الجسد ، فلها نصف النعيم و له نصف النعيم وهو
المعبر عنه في الحديث بنصف الجنة وهذا للعارف و للشهيد فقط ، أما باقي
المؤمنين فمحجورون عن السياحة في الجنة إنما تعرض عليهم مقاعدهم في الجنة
بالغداة و العشي فحسب.
مأخوذ من "جواهر المعاني" لسيدي علي حرازم برادة (رضي الله عنه)