شريعة ما ورد به التكليف ، والحقيقة ما حصل به التعريف ، فإذن الشريعة مؤيدة بالحقيقة والحقيقة مقيدة بالشريعة ، فمنو جه كل شريعة حقيقة وكل حقيقة شريعة ، ومن عُرْف القوم يفرقون بينهما فالشريعة بواسطة الرسل ، والحقيقة تقريب بغير واسطة وربما يُشار بالشريعة إلى الواجبات بالأمر والزجر ، وبالحقيقة إلى المكاشفات بالسِّر ، والشريعة : وجود الأفعال له ، والحقيقة : شهود الأحوال به ، والشريعة : القيام بشروط الفرق ، والحقيقة : الكون بحقوق الجمع ، والشريعة القيام بشروط العلم ، والحقيقة الاستسلام لقضيات الحكم ، والشريعة خطابه لعباده وكلامه الذي أوصله إلى خلقه بأمره ونهيه ليوضح به المحجة ويقيم به الحجة ، والحقيقة تصريفه في خلقه وإرادته ومشيئَته التي يخص بها من اختاره من أحبابه ويقضي بها على من أبعده عن بابه ، وقيل الشريعة النهي والأمر ، والحقيقة : ما قضى به وقدَّر وأخفى واظهر ، وقيل الشريعة : ان تعبده والحقيقة : أن تشهده ، وقيل الشريعة : دعوته والحقيقة : تقريبه ومودته ، وقيل الشريعة : الكتاب والسنة والحقيقة : مشاهدة القهر والمنة ، وقيل جمع الله تعالى بين الشريعة والحقيقة في آيات كثيرة ، فمنها قوله تعالى لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ ، فهذه شريعة وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ فهذه حقيقة ، ومنها قوله تعالى : فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ فهذه شريعة وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ فهذه حقيقة ، ومنها قوله تعالى تعليما لنا : وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، فقوله إِيَّاكَ نَعْبُدُ حفظ للشريعة وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ إقرارا بالحقيقة إِيَّاكَ نَعْبُدُ فيه إثبات الكسب للعبد وإضافة العبادات إليه ، وفي قوله نَسْتَعِينُ رد الأمر إلى الله وان العبادة بعونه وتسخيره ، وقيل إِيَّاكَ نَعْبُدُ أي : لا نعبد إلا إياك ولا نشرك في عبادتك غيرك فهذا مقام الشريعة ، وقيل إِيَّاكَ نَعْبُدُ شريعة وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ حقيقة ، و إِيَّاكَ نَعْبُدُ مقام الأبرار وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ مقام المقربين الأبرار ، قائمون لله والمقربون قائمون بالله ، وأما إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ أي : لا نستعين إلا بك ، لا بأنفسنا وحولنا ، فالعمل الأوَّل هو العمل لله ، والعمل الثاني هو العمل بالله فالعمل لله يوجب المثوبة ، والعمل بالله يوجب القربة ، والعمل لله يوجب تحقيق العبادة ، والعمل بالله يوجب تصحيح الإرادة ، والعمل لله نعت كل عابد ، والعمل بالله نعت كل صادق ، والعمل لله القيام بالأحكام والظواهر ، والعمل بالله القيام بالضمائر ، فإذا عرفت ذلك يا أخي فلا تكسل في السعي ، فإن فاتك أمرٌ مع الاجتهاد فارجع إلى الحقيقة وقل كذا قدِّر ، وهكذا ينبغي للعبد أن يسعى امتثالاً للأمر وهو بباطنه معتمدٌ على التقدير والحكم فإن أُعطي شكر وإن مُنِع سلَّم وصبر.
إن الحقيقة نتيجة الطريقة ، والطريقة نتيجة الشريعة ، كأنك إذا اصطفيت الشريعة ، يعني إذا عملت بما هو اقرب إلى الورع والتقوى غير ما حطَّ إلى الرخصة تظهر منها الطريقة ، وإذا نقحتْ الطريقة تَظهر منها أسرار الحقيقة ، وقد سألت أستاذي عن الشريعة والطريقة والحقيقة ، فقال الشيخ رحمة الله عليه : إذا أكل الصائم عمداً أُبطل صومه في الشريعة ، وإذا اغتاب أُفطر صومه في الطريقة ، وإذا خطر بباله ما سوى الله افطر صومه في الحقيقة ، فلا يمكن الوقوف على أسرار ذلك إلا بإثبات الأعمال المبَّينة ببيان صاحب الشرع ، لأن كل طريقة تخالف الشريعة فهي كفر ، وكل حقيقة لا يشهد عليها الكتاب والسنَّة فهي إلحاد وزندقة