.
الله
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ..الحمد لله الحنّان المنّان قديم الإحسان، والصلاة والسلام على حبيب الرحمن، والآل والصحب في كل وقتٍ وآن.
أما بعد...
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته..
ثم أما بعد..
فنستأنف ما بدأناه ونقول:
اختار الله الشاذلية لمحبته
وقال سيدي سلامة الراضي رضي الله عنه:
لما كانت طريق السادة الصوفية هي زبدة الدين وخلاصة اليقين وأهلها خيرة المسلمين وصفوة المؤمنين قد صفى الله قلوبهم وصفاهم واختارهم لمحبته وقربهم وتولاهم،
ومن أعلا الطرق التى تعددت وإلى أذواقٍ ومشاربٍ تشعبت طريق السادة الشاذلية التى كانت عليها بواطن أصحاب رسول الله صلى الله عليه سلم، إذ هي طريق الاجتماع والاستماع والاتباع والانتفاع، لا طريق الانقطاع والعزلة وعدم الاجتماع، يأمرون التلميذ بمحبة ساداتهم حتى يكون قلب التلميذ بمحاذاة قلب أستاذه حتى إذا أفاض الله على قلب الأستاذ من رزق التلميذ سرى إلى قلب التلميذ فلا يجري إلى ناحيةٍ أخرى، نفعنا الله بهم فى الدنيا والأخرى، وجعلنا من المحسوبين عليهم ورضى الله عنهم وعنا بهم. انتهى المقصود نقله من كلام سيدى سلامة الراضي رضي الله عنه.
الحب من أول قدم:
ومن أذكار سيدى أبى الحسن ومناجاته:
إلهي أنت أقرب إلى من تمييز عقلي ومن تصديق قلبي ومن خدمة نفسي ومن محبة روحي ومن شهادة سري فأعوذ بك من حجابي بصفاتك.
قال ابراهيم الرفاعي فى تذييله على درة الأسرار عند قول سيدى أبي الحسن السابق (ومن محبة روحي): هنا تظهر مزية الشاذلية حيث يبدأون من الله إلى الخلق "ها أنت وربك" كما يبدأون بالحب من أول قدم ثم تكون المجاهدة بعد ذلك من حيث عالم الفرق.
الفناء فى المحبوب:
قال سيدى أبو الحسن:
(الزم باباً واحداً تفتح لك الأبواب واخضع لسيد واحد تخضع لك الرقاب. قال تعالى: "{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُه} [الحجر: 21] – {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} [التكوير: 26] ") انتهى.
ونقول مستمدين العون من الله: وطريق المحبة تنبني على فناء التلميذ في محبة أستاذه الهائم في الحضرة المحمدية فينال من مراتب الحب ما يعجز عنه السائرين فى دروب الطريق.
ولذا يقول سيدي أحمد بن عطاء الله السكندرى رضي الله عنه فى لطائف المنن:
كان مبنى طريق الشيخ رضى الله عنه الجمع على الله وعدم التفرقة ... إلى أن يقول: وكان يأمر أصحابه بالجمع على محبته. انتهى المقصود نقله من كلام سيدى ابن عطاء الله عن سيدى أبى الحسن رضى الله عنهما وعنا بهما.
وقال بعض المشايخ: إن العمدة فى طريق الشاذلية الصحبة الصالحة مع الاهتداء والمحبة الصادقة مع الاقتضاء.
ولذا قال سيدى أبو الحسن الشاذلى لسيدى أبى العباس المرسى رضى الله عنهما:
"ما صحبتك إلا لتكون أنت أنا وأنا أنت"
ولما اجتمع الأئمة ياقوت العرشى وأحمد بن عطاء الله ومحمد شرف الدين البوصيرى بشيخهم الإمام أبى العباس المرسى رضى الله عنهم فى مجلس سيادته وكان تجلى الوقت تجلى بسط وعطاء فقال لهم سيدى أحمد أبو العباس المرسى: "تمنوا على الله" فقال الإمام البوصيرى: أريد أن أمدح النبى صلى الله عليه وسلم كأننى أراه. فقال له: كذلك. وقال الإمام ابن عطاء الله مستحضراً قوله تعالى : ({يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الْأَلْبَابِ} [البقرة: 269]) فقال: أريد أن أعطى الحكمة. فقال له: كذلك. وقال الإمام ياقوت العرشي الفاني فى حب شيخه والذى كان يقول له (يا دهشة يا حيرة يا حرف لا يقرأ) قال: أريد أن أكون عين شيخي. فقال له: كذلك. فقال الأحباب كلهم: فاز بها ياقوت. انتهت الرواية بالمعنى ومن عنده نصها فليثبته مشكوراً.
يقول سيدى أبو الحسن الشاذلى:
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، ما حقيقة المتابعة؟ فقال:
(رؤية المتبوع عند كل شيء ومع كل شيء وفي كل شيء)
والمراد رؤية الشهود، ولهذا نقل عنه وعن تلميذه سيدي أبي العباس رضي الله عنهما كلاً على حدة أنه قال بلفظ قريب:
لو حجب عنى رسول الله طرفة عين ما عددت نفسى من جملة المسلمين.
ثم إن سيدي أبو الحسن الشاذلي نادى اللـه فى الوظيفة الشاذلية أن يجمع عليه الوارث لهذه الأمانة فقال:
(اسمع ندائي فى فنائي وبقائي بما سمعت به نداء عبدك زكريا)
وكان دائماً ما يقول:
( ألا رجل من الأخيار يعقل عنا هذه الأسرار… هلموا إلى رجل صيره اللـه بحر الأنوار).
ولما خرج سيادته من تونس للحج وكان قد أوتي عليه فيه من قبل ابن البراء والسلطان إلا أنه رجع إليها ومكث فيها حتى قدم إليها سيدي أبو العباس المرسي فقال سيدي أبو الحسن: واللـه ما ردني إلى تونس إلا هذا الفتى.
ولذا لما دخل سيدي أبو العباس على سيدي أبي الحسن لما كف بصره قال سيدى أبو الحسن لسيدى أبى العباس:
يا أبا العباس انعكس بصري على بصيرتي فصرت كلي مبصراً، بالله الذى لا إله إلا هو ما أترك فى زماني أفضل من أصحابى وأنت واللـه أفضلهم. ثم قال له: كم سنك يا أبا العباس فقال : يا سيدى يوشك أنه ثلاثون سنة فقال له: بقيت عليك عشرة أعوام وترث الصديقية من بعدي. انتهى رضي اللـه عنهما ونفعنا ببركاتهما أمين.
رأته مرة فى حى ليلى
قال أبو عبد الله الناسخ: كنت أمشي خلف أبى الحسن وهو راكب في محارة، فرأيت رجلين يمشيان تحت ظل المحارة، فقال أحدهما للآخر: يا فلان، رأيت فلاناً يسيء معك العِشْرَةَ وأنت تحسنُ إليه. فقال له: هذا من بلدي، وأنا أقول كما قال الشاعر:
رأى المجنونُ فى البيداءِ كلباً فَجَرَّ لَهُ من الإحسـانِ ذيلا
فلامــوه على ما كان منه وقالوا كم أنلت الكلب نيلا
فقالوا دعوا الملامةَ إنَّ عيني رأته مــرة فى حي ليلى
قال: فأخرج الشيخ رأسه من المحارة وقال له: أعد على ما قلتَ يا بُنَي فأعاد مقالته. فتحرك الشيخ فى محارته وقال:
... دعوا الملامةَ إنَّ عيني رأته مرة فى حي ليلى
وجعل يكررها مراراً، ثم رمى له غفارة زبيبية اللون، وقال له: خذ هذه والبسها، فأنت أولى بها مني، جزاك الله يا بُنَي عن حُسنِ عهدك خيراً.
قال: فأشرت إليه وقلت له: ناولنيها، فأخذتها وقبلتها، ثم عمدت إلى دراهم كثيرة وناولته إياها، فقال لي: والله لو أعطيتني ملئها ذهباً ما بعتها به. هذه والله ذخيرة حصلت عندي، لأجعلنها فى كفني والله. وما أنا ماشي تحت ظل هذه المحارة إلا لعل الله يرحمني بما أسمع من أذكاره، وأعلم أن الرحمة تنصب عليه فلعلي أنال منها شيئا.
فعلمت انه أعرف بالشيخ مني. انتهى.
هذا ونكتفي بما ذكرناه فإن فيه الكفاية للمتأمل، والموضوع لم ينتهِ بعد، وإن شاء الله نستكمله فيما يستجد من مشاركات فإلى لقاء، وصلى الله على خاتمِ الأنبياء وسيد الأولياء سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الأتقياء الأنقياء الأوفياء والحمد لله ربِّ الأرضِ والسماء.
.....