.
عبدالمطّلب: شيبة الحمد
ولادته، وتسميته، وطفولته
وُلد عبدالمطّلب جدّ النبيّ صلّى الله عليه وآله في يثرب، وقد تُوفّي أبوه هاشم رضوان الله عليه في سفره وهو بعدُ لم يولد، فلمّا اشتدّ بأمّه سلمى بنت عَمرو النجّاريّة الحمل وجاءها المخاض وهي لا تجد ألماً، أسدلت سِترها، وكتمت أمرها، فبينما هي تعالج نفسها إذ نظرت إلى حجابٍ من نور قد ضُرِب عليها من البيت إلى عِنان السماء، وحَبَس الله عنها الشيطان الرجيم، فَولَدت عبدالمطّلب، ثمّ قامت من ساعتها وتولّت نفسها. ولمّا وضَعَته سطع مِن غُرّته نورٌ شعشعاني، وكان ذلك النورُ نورَ رسول الله صلّى الله عليه وآله كان ما يزال ينتقل من أجداده إلى آبائه ليصل إليه.
وضَحِك عبدالمطّلب وتبسّم، فتعجّبت أُمّه سلمى من ذلك، ثمّ نظرت إليه فإذا هي بشعرةٍ بيضاء تلوح في رأسه، فقالت: نعم، أنت شيبةٌ كما سُمِّيت. ثمّ إنّها درَجَته في ثوبٍ من صوف، وقمّطته وهيّأته، ولم تُعْلِم به أحداً من قومها ـ كما أوصاها زوجها هاشم؛ إذ كان يخشى عليه من اليهود ـ، حتّى مضت له أيّام، فصارت تلاعبه ويَهشّ إليها حتّى كمل له شهر، فعلم الناس به، فلمّا كان له شهرانِ مشى، ولم يكن على اليهود أشدّ منه عداوةً وأكثر ضرراً، وكانوا إذا نظروا إليه امتلأوا غيظاً وكمداً؛ لِما يعلمون بما سيظهر منه.
وكانت أمّه، إذا ركبت ركب معها أبطال الأوس والخزرج، وكانت مُطاعةً بينهم، وكان إذا خرج يلعب يقف الناس مِن وله يفرحون به دون أولادهم. وكانت أمّه لا تأمن عليه أحداً، فلمّا تمّ له سبع سنين اشتدّ حَبلُه، وقويَ بأسُه، وتبيّن للناس فضله، وكان يحمل الشيء الثقيل، ويأخذ الصبيَّ ويصرعه، فلم يشكوه إلى أُمّه. ( بحار الأنوار للشيخ المجلسيّ 55:15 ـ 57 / ح 48 ـ عن: الأنوار لأبي الحسن البكري ).
عودته إلى مكّة
• قال أبو الحسن البكري: بَلَغَنا أنّ رجلاً من بني الحارث دخل يثرب في حاجةٍ له، فإذا هو بعبد المطّلب بن هاشم يلعب مع الصبيان قد غمرهم بنوره، فوقف الرجل ينظر إلى الصبيّ وهو يقول له: ما أسعدَ مَن أنت في ديارهم ساكن! وعبدالمطّلب يقول: أنا ابنُ زمزمَ والصَّفا، أنا ابنُ هاشم وكفى! فناداه الرجل: يا فتى، فأجاب وقال: ما تريد يا عمّ ؟ قال: ما اسمُك ؟ قال: شَيبةُ بنُ هاشم بنِ عبدِمَناف، مات أبي وجَفَوني عمومتي، وبَقِيتُ مع أُمّي وأخوالي، فمِن أين أقبلتَ يا عمّ ؟ قال: مِن مكّة، قال: وهل أنت متحمّلٌ منّي رسالة، ومتقلّدٌ لهم أمانة ؟ قال الحارث: وحقِّ أبي وابيك، إنّي فاعلٌ ما تأمرني به. قال: يا عمّ، إذا رجعتَ إلى بلدك سالماً، ورأيتَ بَني عبدمَناف فاقرأْهم عنّي السلامَ وقل لهم: إنّ معي رسالةَ غلامٍ يتيم، مات أبوه وجَفَوه عمومته. يا بَني عبدمناف، ما أسرَعَ ما نَسِيتُم وصيّةَ هاشم وضيّعتُم نسلَه، وإذا هَبَّت الريحُ تحمل روائحكم إليّ!
فبكى الرجل، واستوى على مطيّته وأرسل زمامها حتّى قَدِم مكّة، ولم يكن له همّةٌ إلاّ رسالة الغلام. ثمّ أتى مجلس بني عبدمناف فوجَدَهم جُلوساً، فأنعَمَهم صباحاً، وقال: يا أهل الفضل والأشراف، يا بَني عبدِمَناف، أراكم قد غَفَلتُم عن عزِّكم، وتركتُم مصباحكم يستضيء به غيرُكم! قالوا: وما ذلك ؟! فأخبرهم بوصيّة ابن أخيهم، فقالوا: وأيمُ اللهِ، ما ظَننّا أنّه صار إلى هذا الأمر، فقال لهم الرجل: واللهِ إنّه لَيَعجزُ الفصحاءُ عن فصاحتِه، ويعجز اللبيب عن خطابته، وإنّه لفصيحُ اللسان، جريُّ الجَنان، يتحيّر من كلامه اللبيب، فائقٌ على العلماء عاقلٌ أديب، إلى عقله الكفاية، وإلى جماله النهاية.
فقال عمّه المطّلب بن عبدمَناف:
أقسمتُ بالسَّلَفِ الماضينَ مِن مُضَرٍ | | وهاشمِ الفاضلِ المشهورِ في الأُممِ |
لأمضيَـنَّ إليـه الآنَ مجتـهـداً | | وأقطعَنَّ إليـه البِيـدَ فـي الظُّلَـمِ |
السيّدُ الماجدُ المشهورُ مِن مُضَـرٍ | | نورُ الأنامِ وأهلِ البيـتِ والحَـرَمِ
|
فرحل إليه عمّه المطّلب وجاء به إلى مكّة في قصّةٍ ظريفة، فيها أنّ اليهود أحاطوا بهما يريدون قتل عبدالمطّلب، فقال لعمّه: يا عمّ، أنْزِلْني حتّى أُريك قدرةَ الله تعالى. فأنزله، فقصده القوم يريدون قتله لِما يعلمون أنّ منه سيكون النبيّ، فجثا عبدالمطّلب ـ وهو غلام ـ على الطريق وجعل يمرّغ وجهه في التراب ويدعو: يا رَبَّ الظَّلامِ الغامر والفَلَكِ الدائر، يا ربَّ السَّبْعِ الطِّباق يا مُقسِّمَ الأرزاق، أسألك بحقِّ الشفيع المشفَّع والنورِ المستودَع، أن تَردَّ عنّا كيدَ أعدائنا » .
فكانت النجاة منهم وهلاك عدوّهم. ( بحار الأنوار 57:15 ـ 64 )
كرامات.. ودلالات
كان عبدالمطّلب رضوان الله عليه ذا جلالةٍ ظاهرة، ومناقب وافرة، وآياتٍ باهرة، تظهر تلك من مشاهد عديدة ومواقف كثيرة.. منها: انحناء سرير أبرهة الحبشي لمّا دخل عليه عبدالمطّلب ( أمالي الشيخ الطوسي:68 ـ عنه: بحار الأنوار 160:15 / ح 91 )، ومنها: انفجار الماء تحت خُفّ راحلته في صحراء لا ماء فيها ( شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 465:3 ـ عنه: بحار الأنوار 169:15 ـ 170 )، ومنها: استجابة دعائه في ردّ جيش أبرهة، وتظهر فيها جلالته وكثرة إيقانه، حيث قال لبعض وُلده: اُعْلُ أبا قُبَيس فانظُرْ ماذا يأتي مِن قِبل البحر.. فيظهر أنّه كان عالماً بأن ستأتي الطير الأبابيل فتستأصل أصحاب أبرهة بن الصباح، وكان قد أخذ بحلقة البيت الحرام وهو يقول:
لا هُمَّ إنّ المرء منعُ رَحْلَهُ فامنَعْ رِحالَكْ |
لا يَغْلِبَنَّ صليبُهم ومِحالُهم غَدْواً مِحالَكْ |
إن كنتَ تارِكَهُم وكعبتَنا فأمرٌ ما بدا لَكْ |
وقال رضوانُ الله عليه:
يا رَبِّ لا أرجو لهم سِواكا | | يا ربِّ فامنَعْ مِنهمُ حِماكـا |
إنّ عَدوَّ البيتِ مَن عاداكـا | | إمنَعْهمُ أن يُخْرِبوا قُراكـا
|