المظهر الثاني من مظاهر الوراثة المحمدية في حياة محيي الطريق سيدي محمد بلقائد قدس الله سره:
الاصطفاء والنجابة في الصبا:
يقول الإمام البوصيري قدس الله روحه... مادحا سيد الوجود صلى الله عليه وسلم:
ألف النسك والعبادة والخلـوة ...
طفلا وهكذا النجبـــاء
لقد تربى شيخنا قدس الله سره بين أحضان جده سيدي الحاج محمد بن العربي الذي قال فيه شيخه سيدي الحاج محمد الهبري رضي الله عنه: " ما فاتكم سيدي محمد بلقائد (يريد جده) بكثرة صلاة ولا صيام ولكن بشيء وقر في قلبه ألا وهي الأحدية" ونوه بمقامه ذات يوم قائلا: "سيدي محمد غربال الأولياء".
بين يدي هذا الطود الشامخ - الذي كان له الفضل في إدخال الطريقة الهبرية إلى تلمسان - تربى محيي الطريق محبا للفقراء مشغوفا بخدمتهم مولعا بصحبتهم وبالاجتماع بأهل العلم والصلاح عاش في بيت الشرف ينهل من الآداب النبوية و الخلال المصطفوية متجولا في أزقة تلمسان بين الفقراء والمحبين باحثا عن الفقراء الزائرين فإذا وجد مريدا هبريا قبل رأسه ويديه وحمل متاعه وألح عليه أن يرافقه إلى البيت ليكرم مثواه، إنها سيرة أبيه سيدي أحمد بن محمد بلقائد الذي كان بيته امتدادا للزاوية مفتوحا للفقراء مسبغا عليهم موائد الكرم المحمدي الموروث أبا عن جد.
ذات يوم كان يتجول في شوارع تلمسان فإذا بمريد هبري عليه سمة الفقراء إلى الله، فقصده الشيخ وقبل رأسه وحمل متاعه ودعاه إلى البيت ونادى على جدته فأعلمها بوجود الضيف، فلما انتهى الضيف من القرى قال: يا فتى أتعرف من أنا؟ قال: لا ألست مريدا هبريا؟ قال: أنا الشيخ أبو عبد الله شيخ الطريقة البوعبدلية، ومن أنت؟ قال: أنا محمد بن أحمد بلقائد.
ففرح الشيخ فرحا شديدا بكرم هذا الفتى ولسان حاله يعبّر قائلا:
بأبه اقتدى عدي في الكرم ...
ومن يشابه أبه فما ظلم
ثم قال: "يا فتى إن جدك لأمك سيدي محجوب كان ينفق علي طوال سنوات دراستي وطلبي العلم الشرعي بتلمسان وأنت على سيرته وهديه".
"خصلتان لا يصلح الدين إلا بهما السخاء وحسن الخلق"
ومن مظاهر الاصطفاء في الصبا أن ظروف الاستعمار كانت قاسية في الجزائر، فانقطع أكثر المريدين عن الذهاب إلى الزاوية بعد أن كانوا يجتمعون فيها كل يوم، ولما طال ذلك الحال راسل مقدم الطريقة بتلمسان سيدي وزين شيخه سيدي محمد الهبري برسالة جاء فيها :"إن الفقراء انقطعوا عن الزاوية ولم يعد يأتها إلا أنا وابن بلقائد" (يقصد شيخنا في سن صباه) فكاتبه سيدي محمد الهبري بأن داوم على الجمع أنت وابن بلقائد فإن الله سيحيي الزاوية ويرد لها سرها وتعمر كما كانت، وذلك الذي حصل بالفعل ببركة دوام الذكر والاجتماع عليه، من أجل هذه الخصال كان الشيخ سيدي محمد الهبري رضي الله عنه يقول: "أولادي أولاد بلقائد" لأن ابن الشيخ الحقيقي هو الذي يذكر الله تعالى ويعمر الزاوية بذكر الله ويداوم الحضور ومن كان هذا حاله أُكرم بما يكرم به الرجال.
من مظاهر الاصطفاء الرباني لشيخنا في صباه أن كان الشيخ سيدي محمد الهبري قدس الله روحه يجلسه إلى جنبه على صغر سنه وكان بعض المريدين يجدون من تقديم سيدي الهبري لهذا الفتى الصغير في المجلس شيئا في نفوسهم، وذات يوم تذاكر كبار المريدين في الأحوال الربانية والمقامات العالية فتكلم شيخنا وهو أصغرهم بكلام عالي جدا جديد العهد بربه فأسكتهم جميعا، فوجدوا في أنفسهم شيئا من ذلك، ولما دخلوا على الشيخ سيدي محمد الهبري قدس الله روحه كاشفهم بذلك وقال: "الفتح ليس خاصا بالكبار بل يشترك فيه الصغار والكبار لأنه عطاء من عند الله".
هذا ولما كان رضي الله عنه في السادسة عشر من عمره ألبس وحُلّي بحلل الوراثة وأذن له شيخه في التربية والسير بالمريدين إلى حضرة رب العالمين فوقع ذلك الأمر على قلبه موقعا ثقيلا وخرج من عند شيخه وهو يبكي من شدة الفرح بعطاء الله ومن ثقل هذه الأمانة فتوجه مباشرة إلى سيدي العربي الجبالي، وقد كان شيخا في الثمانين من عمره وشيخنا شابا في السادسة عشر وكانت بينهما صحبة ومحبة عظمى يصف شيخنا بعض مظاهرها فيقول: "ما زرت الشيخ سيدي محمد الهبري يوما إلا وجدت سيدي العربي الجبالي إما يدخل قبلي بلحظات أو أدخل قبله من غير ميعاد بيننا" إنها صادق المحبة.
توجه إلى هذا الشيخ الجليل وقال له أن هذا الأمر كبير وأنا شاب صغير السن فقال الشيخ العربي: "هذا عطاء الله، والله هو الذي أكرمك به، فأقم حيث أقامك الله" فزاد فؤاده ثباتا وعزما.
..........