مولانا أبو الفَيْضِ ذو النون المصري

روى الإمام المناوى فى طبقاته عن ذى النون المصرى أنه قال:
إن الجوهرى خرج بالعجين من بيته إلى الفرن وهو جُنب..
فجاء إلى شط النيل.. فنزل الماء ليغتسل..
فرأى وهو فى الماء مثلما يرى النائم كأنه ببغداد وقد تزوج وأقام مع المرأة ست سنين.. وأولدها أولادا..
ثم رُدّ إلى نفسه وهو فى الماء..
فخرج ولبس ثوبه.. وأخذ خبزه من الفرن وجاء إلى بيته..
وأخبر أهله بما أبصره..
فبعد أشهر جاءت تلك المرأة التى رأى أنه تزوجها فى تلك الواقعة تسأل عن داره..
فلما رآها عرفها وعرف الأولاد..
وقيل لها: متى تزوجك؟
قالت: منذ ست سنين.. وهؤلاء أولاده منى.
قال ذو النون: فخرج فى الحس ما وقع فى الخيال.
***
إذا سألتنى: هل تصدق هذا؟؟
قلت: أصدقه تماما.. وأصدق ما هو أكثر منه.. طالما أننى آمنت بأن الله على كل شىء قدير.. وأنه فعال لما يريد..
كم فى الدنيا من الغيوب التى لا نعلم عنها شيئا؟؟.. وكم من المسائل التى يعجز العقل عن الوصول إلى كنهها؟؟.. وكم.. وكم؟؟...
سألت نفسى قديما لأستريح من الشك: كم حجم ما تعلم إذا قورن بما لا تعلم؟
ووجدت أن حجم هذا لذاك يوجب تلاشى الأول تماما.. نحن فى الحقيقة لا نعلم إلا القليل القليل.. ولكن غرور العقل وطيش النفس يصوران لنا أننا نعلم الكثير.. فنطلق لأنفسنا العنان لكى تنكر وترفض وتقيم من جهلها حَكما على فِعل الله فى مُلكه..
كان قضيب البان الموصلى من الأبدال.. وكانت له أحوال عجيبة.. ولم يكن الناس يرونه يصلى بالمسجد قط.. فسألوا عنه الشيخ عبد القادر الجيلانى – وكان معاصرا له - فقال:
- هو ولى مقرّب ذو حال مع الله تعالى وقدم صدق.
فقيل له:
- ما نراه يصلى.
فقال:
- إنه يصلى من حيث لا ترونه.. وإنى أراه إذا صلى - بالموصل أو بغيرها من آفاق الأرض- يسجد عند باب الكعبة.
وكان الإمام ابن يونس ينكر عليه بشدة حتى وقعت له معه تلك الواقعة التى رواها الشيخ أبو عبد الله الماوردى فقال:
كنت عند الشيخ الإمام كمال الدين بن يونس بمدرسته بالموصل وعنده جماعة.. فذكروا قضيب البان ووقعوا فيه.. ووافقهم الشيخ ابن يونس.. فبينما هم يخوضون إذ دخل عليهم قضيب البان.. فبُهتوا.. فقال:
- يابن يونس.. أأنت تعلم كل ما يعلمه الله؟
فقال:
- لا.
قال:
- فأنا من العلم الذى لا تعلمه أنت.
***
علق الشيخ الأكبر محيى الدين بن عربى على العجيبة التى رواها ذو النون المصرى فقال:
وهذه من مسائل ذى النون السِّت التى تُحيلها العقول.. فلله قوى فى العالم خلقها مختلفة الأحكام كاختلاف حكم العقل فى العامة من حكم السمع والبصر وغيرهما.. فاختص الله أولياءه بقوى مثل هذه الحكاية.. فلا ينكرها إلا جاهل بما ينبغى للجناب الإلهى من الاقتدار.. ولا يعرف هذا القرب إلا من عرف قدرة الله فى وجود الخيال فى العالم الطبيعى.. وما يجده به من الأمور الواسعة فى النفَس المفرد وطرفة العين.. ثم يرى أثر ذلك فى الحس بعين الخيال.. فيعرف هذا القرب وتضاعف السنين فى الزمن القليل من زمان الحياة الدنيا. انتهى.
***
القضية إذن إيمانية وليست حسابية.. غيبية وليست مما يُختبر بالحواس..
لخص العارف بالله الشيخ داود بن ماخلا هذه القضية بأبسط طريقة وأوضح عبارة حين قال:
ديننا هذا قسمان:
ظاهر علم.. وباطن حقيقة..
فظاهره مضبوط بالأصول والنقول.. وباطنه مضبوط بأنوار القلوب..
فمن أتاك بشىء منه فاستشهِد عليه بما هو منه..
فالظاهر بشواهده.. والباطن بشواهده..
فمن قبل شيئا من ظاهره بغير نقل ثقة زل.. ومن قبل شيئا من باطنه بغير شهود قلب ضل.