بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا
قال سيدى أبو الحسن " الشاذلي رضي الله عنه " في المحبة، مستعملا مصطلحات القوم:
"المحبة آخذة من الله لقلب عبده عن كل شيء سواه. فترى النفس مائلةً لطاعته،والعقل متحصِّنا بمعرفته، والروحَ مأخذوة في حضرته، والسرَّ مغموراً في مشاهدته. والعبدُ يستزيد فيُزاد،
ويفاتَحُ بما هو أعذبُ من لذيذ مناجاته. فَيُكْسَى حُلَلَ التقريب على بساط القُربَة،
ويَمَسُّ أبكارَ الحقائق وثيِّباتِ العلوم. فمِن أجل ذلك قالوا: أولياء الله عرائس، ولا يرى العرائِسَ المجرمون.
"قال له القائل: قد علمتُ الحب، فما شرابُ الحب، وما كأس الحب، ومن الساقي،
وما الذوق، وما الشراب، وما الري، وما السكر، وما الصحو؟
"قال رضي الله عنهُ: الشراب هو النور الساطع عن جمال المحبوب.
والكأس هو اللطف الموصِل ذلك إلى أفواه القلوب. الساقي هو المتولي الأكبر
للمخصوصين من أوليائه والصالحين من عباده وهو الله العالم بالمقادير وبمصالح أحبائه.
فمن كُشِفَ له عن ذلك الجمال، وحَظِيَ منه بشيء نَفَساً أو نَفَسَيْن، ثم أُرخِي الحجابُ فهو الذائق المشتاق.
ومن دام له ذلك ساعة أو ساعتين فهو الشارب حقا. ومن توالى عليه الأمر، ودام له الشرب
حتى امتلأت عروقه ومفاصله من أنوار الله المخزونة فذاك هو الري.
"وربما غاب المحسوس والمعقول. فلا يدري ما يقال ولا ما يقول، فذاك هو السُّكر.
وقد تدور عليهم الكؤوس، وتختلف لديهم الحالات، فَيُرَدُّون إلى الذكر والطاعات،
ولا يحجبون عن الصفات، مع تزاحم المقدورات فذلك وقت صَحْوهم، واتساع نظرهم، ومزيد علمهم".
وهذه وصية جامعة لأبي الحسن تلخص السلوك.
قال قدس الله سره: "إنك إذا أردت أن يكون لك نصيبٌ مما لأولياء الله تعالى فعليك رفض الناس جملةً
إلا من يدلك على الله تعالى بإشارة صادقة، وأعمال ثابتة لا ينقضُها كتاب ولا سنة.
وأعْرِضْ عن الدنيا بالكلية، ولا تكن ممن يُعرض عنها ليُعطى شيئا على ذلك.
بل كن في ذلك عبداً لله، أمرك أن ترفض عدوه.
"فإن أتيت بهاتين الخصلتين: الإعراض عن الناس والزهد في الدنيا فأقِم مع الله بالمراقبة،
وملازمة التوبة بالرعاية والاستغفار والإنابة، والخضوع للأحكام بالاستقامة.
"وتفسير هذه الوجوه الأربعة: أن تقوم عبداً لله فيما تأتي وما تذَر، وتراقب قلبك أن لا يَرَى قَلْبُك في المملكة شيئا لغيره.
"فإذا أتيت بهذا نادتك هواتفُ الحق من أنوار العزَّة: إنك قد عَمِيتَ عن طريق الرشد!
من أين لك القيام مع الله تعالى بالمراقبة وأنت تسمع قوله عز وجل
وكان الله على كل شيء رقيبا
سورة الأحزاب، الآية: 52
قلت: هذه مرحلة اعتماد السالك على جُهد نفسه، وهي لا تزال حيَّةً تسعى،
تُسوِّلُ له أن الطاعات من كسبه المحض، وأن السلوك أخذ وعطاء.
وكثيرا ما تجد السالك في هذه المرحلة يتعلق بنتائج الأذكار، ويهفو إلى لوائح الأسرار وبوارق الأنوار.
ويترقَّب ظهور الكرامة وفتح الباب.
وكل هذه التطلعات والتخرصات ظواهر لعَرَامَة النفس وشرَّتها.
فإذا أراد الله بالسالك أن يُوقِفَه على أرض العبودية غير المشروطة التي عليها السير الحقيقي
تدارَكَه بانكسار نفسه وتحطُّم عزائمها،
فلا يبقى له اعتماد إلا على فضل ربه المحض.
وهناك يبدأ السير القلبي.
قال أبو الحسن: "فهناك يدركُك من الحياء ما يحملك على التوبة مما ظننت أنه قريب.
فالتزم التوبة بالرعاية لقلبك أن لا يشهد ذلك منك بحال فتعود إلى ما خرجت منه.
"فإن صحت هذه منك نادتك الهواتف أيْضا من قِبَل الحق تعالى: التوبة منه بدأت،
والإنابة منه تتبعها، واشتغالك بما هو وصف لك حجاب عن مرادك!
"فهناك تظهر أوصافك (النفسية)، فتستعيذ بالله منها. وتأخذ في الاستغفار والإنابة.
والاستغفار طلب السِّتر من أوصافك إلى أوصافه. فإن كنت بهذه الصفة، أعني الاستغفار والإنابة،
ناداك عن قريب (بإلهام أو وحي منام أو قرينة حال أو غير ذلك): اخضع لأحكامي،
ودَعْ عنك منازعتي، واستقم مع إرادتي برفض إرادتك. وإنما هي ربوبيَّة تولَّت عبوديّةً.
وكن عبدا مملوكاً لا يقدر على شيء. فمتى رأيت منك قدرة وكلْتُك إليها. وأنا بكل شيء عليم.
"فإن صح لك هذا الباب ولزمته أشرفت من هنالك على أسرار لا تكاد تُسمَع من أحد من العالمين".
ومن وصايا الإمام الشاذلي، في معنى ما تقدم، قوله:
"لن يصل الولي إلى الله ومعه شهوة من شهواته، أو تدْبيرٌ من تدبيراته،
أو اختيار من اختياراته".
قلت: وهذا هو شرط العبودية: أن تفوِّضَ له سبحانه،مع دوام التوسل
والتضرع والطاعة والذكر والاستغفار والانكسار.