قراءة أوليّة في الأدب الصوفي
محمد سعيدي / جامعة مستغانم
غير مجد في هذا البحث الموجز التطرق إلى تعاريف التصوف وتتبع مفاهيمه، فهي كثيرة ومتشعبة وقد تتشعب بتشعب المدارس الصوفية وتتعدد بتعدد الرجال الصوفية في المدرسة الواحدة وقد استقلت بحوث ضافية بهذه المهمة1. ولكن تمت مقدمات لابد منها أضعها بين يدي القارئ ونحن بصدد تبيان تجليات بناء الإنسان في المنظومة الصوفية : إن نفرا من الأدباء، والشعراء منهم بصفة أخص، حسبوا التصوف تمسكا بالرموز واستعارة لأسماء وألقاب كبار الصوفية فراحوا يحشدونها تباعا وهم لا يزيدون أن يلتحفوا مسوحا من الثقافة الصوفية الإسلامية لا غير، ولا يعيشون تجارب ولا يتذوقون وُجدا أو بتعبير آخر فإنهم يميلون إلى استثمار المعجم الصوفي ولا يتجاوزونه، فتغدو صوفيتهم مصطنعة وذابلة غير ذات إشعاع. وكثيرا ما تتجرد تلك المضامين الصوفية الحقّة عند هؤلاء الشعراء من مدلولها الصوفي ذي المنبت الإسلامي المثقل بالرموز والظلال الإسلامية.
فليس من التصوف في شيء تلك الكتابات الذاتية والتهويمات الوجدانية التي تطفح بها إبداعات أدبية، شعرية ونثرية معاصرة يكتب أصحابها تحت تأثيرات نفسية مختلفة يستجيبون فيها لذواتهم ولنوازعهم وميولهم.
وأعتقد أن الحكم النقدي الذي أطلق في العصر الحديث على جمع من الشعراء بكونهم "شعراء متصوفين" أو "شعراء ذوي نزعات واتجاهات صوفية"، لا يستند على فيض دراسة ولا يقوم على تحليل موضوعي مستفيض ولم يسلك نهج الاستقراء للإبداعات العربية والإسلامية والموازنة بينها وبين غيرها من الإبداعات العالمية، وهناك "حقيقة هامة لابد للدارسين في حقول الآداب العربية والفلسفية من أن يعرفوها هي أن النقد القديم استثنى التراث الصوفي من الدراسات الفنية ولا تزال هذه النظرة سائدة حتى الآن إلا في القليل النادر"2. فنحن بحاجة ماسة إلى دراسات جادة وجديدة تمحق الاختلاف بين النقاد حول المصطلحات الأدبية والعلمية والمعرفية بعامة وتنير سبيل الباحثين والدارسين بغية وضع الأمور في نصابها وقوالبها3. ففي الكثير من الدراسات النقدية المعاصرة يكتنف مصطلحَ "أدب التصوف" الكثيرُ من الغموض والإبهام حتى أضحى بعض الدارسين يلصقه عبثا بكل مبدع غارق في ذاتيته هائم في خياله. وإذا كان "التصوف يحلق بجناحين أحدهما الفلسفة والثاني الأدب بل إنه يمكن القول بأن التصوف أقرب إلى الأدب من إلى الفلسفة"4 فمن الحيف والقصور إذن أن يظل حبيس الأحكام الانطباعية بلا تفسير موضوعي وبلا سبر لأغواره الفكرية والفنية والرمزية ومن الشطط أن يخلط الدارسون والباحثون شعراء صوفيين بآخرين يحسبون على التصوف…
ولنأخذ - على سبيل المثال - الشعر الصوفي والشعر الرومانسي ومدى الاشتباه، إن لم نقل الاضطراب الذي قد يقع فيه غير قليل من النقاد في تفسير التجربة الشعرية وما يلحقها من إبداع شعري صوفي أو رومانسي، كلٌّ على حدة، وإلحاقهما بتياريهيا أو باتجاهيهما أو بمدرستيهما بسبب ما يحيط هذين الشعرين من تشابه ولاسيما في جانب الصور و الأخيلة5. ومع ذلك يبقى الشعر الرومانسي هو غير الشعر الصوفي، فالأول استجابة للذات نحو الذات، أما الثاني فهو استجابة للسمو نحو السمو، للذات نحو العلو.2- يجب الوقوف موقف الدارسين المحللين أمام تلك الآراء المتناثرة في بطون كتب المستشرقين، ولا نسلم بموضوعيتها بله صحتها، فلقد كان للمستشرقين اليد الطولى في إبداء الكثير من النظريات والآراء النقدية حول تراثنا الإسلامي، ومنه التصوف... آراء أقل ما يقال عنها إنها لا تستند إلى الدراسة الشمولية التي تقوم على المنهج العلمي سبيلا، وعلى الموضوعية وسيلة وكانوا سببا في توجيه الفكر الإسلامي وجهة تتباين والأصول الإسلامية. ولا عجب فقد قام نفر من هؤلاء المستشرقين بتأليف "دائرة المعارف الإسلامية"، وفيها من الآراء والأخطاء ما لا يخفى على دارس منصف وما تزال هذه الآراء تسري عند تلامذتهم من الغربيين والعرب على حد سواء ممن تأثروا بهم إلى حد النقل الحرفي من كتبهم ومن هؤلاء المستشرقين نجد آربري, جب, مرجيلوت, نيلكوس من إنجلترا، وجولد تسهير من المجر وغيرهم.
3- غير صحيح تلك المبالغات التي مفادها أن التصوف الإسلامي يستمد أصوله من مؤثرات خارجية, أجنبية عنه ونحن إذ لا تنكر التأثير والتأثر بين الثقافات الإنسانية فإنا - في مجال التصوف - نقف موقف ريبة من هذا الرأي. فالتصوف مقامات "والمقام هو قيام العبد بين يدي الله عز وجل فيما يقام فيه من المجاهدات والرياضات والعبادات"6 والصوفي المسلم لم يجاوز في كل مقاماته حدود القرآن وسيرة الرسول (ص)، فمقامات الزهد والحب والتوكل والتوبة والذكر وغيرها تجد في القرآن الكريم والحديث الشريف مرتكزاتها، فهما الاثنان منبتها. وإن رابعة العدوية وهي شهيدة العشق الإلهي كانت أول من نادت في شعرها بحب الله بعيدا عن طمع في جنة أو خوف من نار، ولما تعلن عقيدة الحب في تقربها وتبتلها لله بقولها.
عرفت الهوى مذ عرفت هواك
وقـمت أنـاجيك يا من ترى
أحبك حبـين حـب الـهوى
فأما الذي هـو حب الـهوى
وأمـا الذي أنـت أهـل له
فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي
وأغلقت قلـبي عمن سواك
خفايـا القلوب ولست أراك
وحـبا لأنـك أهـل لذاك
فشغلي بذكرك عمن سواك
فكشفك للحجب حتى أراك
ولكن لك الحمد في ذا وذاك
فلم تكن تحتاج في حبها هذا إلى اكثر من آيتين. الأولى، هي قوله تعالى : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله7. والثانية، هي قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا من يرتدد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين8. ولنقس على مقام الحب كل المقامات الصوفية فلا حياد فيها عن القرآن الكريم.
4- إن الأدب الصوفي على كثرته وثرائه يحتاج اليوم، وأكثر من ذي قبل إلى آليات قراءة ومناقشة وتحليل وغربلة بغية فك رموزه وتصفيته من شوائب علقت به على مر العصور. ذلك أن القراءة المتباينة والمتناقضة للنص الواحد قد جرّت ويلات على كبار الصوفية، فالشيخ الأكبر محي الدين ابن عربي هو شيخ العارفين وإمام الصوفيين عند نفر من النقاد والدارسين. وهو على العكس من ذلك خارج عن جادة الصواب وينعت بأبشع النعوت عند آخرين.
والحلاج كذلك، هو الولي، التقي، النقي، الورع، عند أقوام. وهو نفسه الزنديق الملحد عند أقوام آخرين. والغريب أننا واجدون النص الواحد عند هؤلاء الصوفية الأقطاب يكون محل تفسير وتأويل بغير ضوابط منهجية فتنجرّ من وراء ذلك أحكام نقدية متباينة.9
ثانيا، بناء الإنسان : معنى البناء : ورد في لسان العرب لابن منظور: البَنْيُ نقيض الهدم. بنى البَنَّاءُ البناء بنيا وبناء وبِنًى. وقد تكون البناية في الشرف. يقول الشاعر العربي :
مـتى يبـلغ البنيان تمامه
إذا كنت تبنيت وغيرك يهدم
وبنى الرجلَ : اصطنعه. يقول الشاعر :
يبني الرجالَ وغيره يبني القرى
شتان بين قرى وبين رجال10
معنى الإنسان عند الصوفية : يذكر الجرجاني تعريفا شاملا للإنسان بقوله : "الإنسان هو الحيوان الناطق.. والإنسان الكامل هو الجامع لجميع العوالم الإلهية، والكونية الكلية، والجزئية. وهو كتاب جامع للكتب الإلهية والكونية، فمن حيث روحه وعقله كتاب عقلي مسمى بأم الكتاب، ومن حيث قلبه كتاب اللوح المحفوظ، ومن حيث نفسه كتاب المحو والإثبات، فهو الصحف المكرمة المرفوعة المطهرة، التي لا يمسها ولا يدرك أسرارها إلا المطهرون من الحجب الظلمانية. فنسبة العقل الأول إلى العالم الكبير وحقائقه بعينها نسبة الروح الإنساني إلى البدن وقواه، وإن النفس الكلية قلب العالم الكبير كما أن النفس الناطقة قلب الإنسان، وكذلك يسمى العالم بالإنسان الكبير".11
وقد شاع عند المتصوفة مفهوم الإنسان الكامل والمقصود به الرسول . يقول الشيخ الجيلي في كتابه الإنسان الكامل في معرفة الأوائل والأواخر، وفي الباب الستين الذي يعنونه "بالإنسان الكامل وأنه محمد وأنه مقابل للحق والخلق"12 ويقول "اعلم حفظك الله أن الإنسان الكامل هو القطب الذي تدور عليه أفلاك الوجود من أوليه إلى آخره، وهو واحد منذ كان الوجود إلى الآبدين فاسمه الأصلي الذي هو له محمد وكنيته أبو القاسم ووصفه عبد الله ولقبه شمس الدين..."13
ومن هذه المعاني اللغوية للبناء والمفاهيم الصوفية للإنسان، يمكن أن نستخلص أن الإنسان كيان ووجود قابل لأن يُصطنع ويُبنى لبنة لبنة، وجزءا جزءا. وكما ينمو جسده ذاتيا فإن روحه قابلة للسمو إن هو تعهدها بالرعاية والسقاية شأنها شأن الجسد، سواء بسواء. كما أن محور عملية البناء في الوجود بأكمله هو الإنسان.
ففي الوظائف الثلاثة : الخلافة والعمارة والعبادة يكون الإنسان هو قطب الراحة الذي عليه مدار هذه الوظائف العظمى. إذن ليس غريبا أن يكون أدب الصوفية كله وبلا استثناء منصبّا على الإنسان بغية بنائه.
5- تجليات البناء : إن أهم مرتكز يستند عليه الصوفية في بناء الإنسان هو الروح وتهذيب النفس. فالإنسان روح وجسد متكاملان، إلا أنه لم يُكرَّم إلا بعد النفخ بالروح : "إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين ,فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين..."14
وأهم ما يقاس به الإنسان الفرد والجماعة الإنسانية في مساعيها الحضارية هو روحانياتها، وإرثها الروحي ولذلك كان الشاعر العربي يصدر عن رؤية كونية لما قرر هذه الحقيقة قبل قرون فقال :
يا خادم الجسم كم تشقى لخدمتـه
أقبل على النفس واستكمل فضائلها
أتطلب الربح فيما فيه خسران
فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان15
وأول ما يسعى إليه الصوفية في أدبهم هو تبيان سبيلهم وإجلاء الغموض الذي قد يكتنف نهجهم فيعرّفون التصوف. يقول أحدهم :
ليس التصوف لبس الصوف ترقعه
ولا صياح ولا رقص ولا طـرب
بل التصوف أن تصفو بلا كــدر
وأن تُـرى خـاشعا لله مكتئبـا
ولا بكـاؤك إن غنى المغـنونـا
ولا اضطراب كأن قد صرت مجنونا
وتـتبع الحـق والقـرآن والدينـا
على ذنوبك طول الدهر محزونا16
وأكتفي بهذين النموذجين الشعريين على سبيل الاستشهاد والتمثيل وما يقتضيه مقام المداخلة. لكني أكاد أجزم أن الأدب الصوفي كله شعر ونثره يتجه هذا الاتجاه، حيث الدعوة إلى الإصلاح والتربية وإعلاء شأن العقل الإنساني إلى أسمى مراتبه حتى امتزاجه بالنقل في أرقى منزلته.
ولما يلتحم الشعر الصوفي بنثره، يتكون لدينا ديوان أدبي طافح بالمبادئ السامقة الرفيعة، التي تعد تفسيرا عمليا للقواعد الإسلامية التي تنبثق من القرآن الكريم والسنة الشريفة. ففي الأبيات السالفة الذكر يتحدد مفهوم التصوف عند أصحابه على أنه تقوى ووفاء وعفة وصفاء وعلم واقتداء...، وما هي إلا خلال بانية تؤسس للأخلاق باعتبارها جوهر الحضارة.
وجماع القول وصفوته، فإن التصوف وما يحتويه من أدب : شعره ونثره، وما يزخر به من ابتهالات وأدعية ومدائح وتوجيهات، ونصائح يعد بحق رافدا من روائد الثقافة الإسلامية في كل أبعادها، الدينية والفنية والأخلاقية والاجتماعية والإنسانية، وغيرها من القيم التي ترمي إلى بناء الإنسان. والأدب الصوفي أدب رساليّ، لم يُقل أو يُنظم لذاته بل لغاية سامية هي إعلاء الإنسان إلى مستوى عقيدته، فيكون فاعلا حضاريا في خلافته لربه وعبادته لخالقه وتعميره لأراضه.