اتقوا الله؛ فإن تقواه أفضلُ مُكتسَب، وطاعتَه أعلى نسَب، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
الناسُ معادن مختلفة، وأصنافٌ مُتعدِّدة، وطبائِع مُتفاوتة، وغرائزُ متغايِرة، كلٌّ يميلُ إلى من يُوافِقُه، ويصبُو إلى من يُشاكِلُه، ويحِنُّ إلى من يُماثِلُه.
الأضداد لا تتفق، والأشكال لا تفترق؛ فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «الأرواح جنودٌ مُجنَّدة، ما تعارفَ منها ائتلَف، وما تناكَر منها اختلَف»؛ أخرجه مسلم.
والجُودُ بالمودَّة من كريمِ البذل، والبَوح بالمحبَّة من جميل الفضل، وقصرُها على أهل التقوى دليلُ العقل.
والعاقلُ الحصيفُ من يُخالِطُ الأفاضِل، ويُعاشِر الأماثِل، لا يُصافِي غريبًا حتى يسبُر أحوالَه، ولا يُؤاخِي مستورًا حتى يكشِف أفعالَه؛ لأن المرء موسومٌ بسِيماءِ من قارَب، موصوفٌ بأفعالِ من صاحَب؛ فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -: «الرجلُ على دين خليلِه، فلينظُر أحدُكم من يُخالِل»؛ أخرجه أبو داود والترمذي.
والمعنى: فليتأمَّل وليتدبَّر أحدُكم من يُخالِط؛ فإن رضِيَ دينَه وخُلُقَه خالَلَه، وإلا صارمَه وبايَنَه، فإن الطباعَ تُعدِي، وصُحبةَ السُّوء تُغوِي.
ومن جميل ما نُظِم:
ابلُ الرجالَ إذا أردتَ إخاءَهم ****وتوسَّمَنْ أمورَهم وتفقَّدِ
فإذا ظفِرتَ بذِي الأمانة والتُّقَى****فبِه اليدين قريرَ عينٍ فاشدُدِ
ويقول القرافي: “ما كلُّ أحدٍ يستحقُّ أن يُعاشَر ويًاحَبَ ويُسارَر”.
عاشِر أخا الدِّين كي تحظَى ***بصُحبَتهِ فالطبعُ مُكتسَبٌ من كل مصحوبِ
كالرِّيحِ آخِذةٌ ما تمرُّ به *** نتنًى من النَّتنِ أو طيبًا من الطِّيبِ
ولا تجلِس إلى أهل الدنايا ***فإن خلائِقَ السُّفهاء تُعدِي
وصاحِب خيارَ الناس تنجُو مُسلَّمًا****وصاحِب شِرارَ الناس يومًا فتندَمَا
قال أبو حاتم: “ومن يصحَب صاحبَ السوء لا يسلَم، كما أن من يدخل مداخِل السوء يُتَّهَم”.
وقال أعرابيٌّ: “مُخالطةُ الأنذال والسِّفلة تحُطُّ الهيبة، وتضع المنزِلة، وتكِلُّ اللسان، وتُزرِي الإنسان”.
وقال شريكُ بن عبد الله: “كان يُقال: لا تُسافر مع فاسِقٍ؛ فإنه يبيعُك بأكلةٍ وشربةٍ”.
ووعظَ الخطَّابُ بن المُعلَّى ابنَه فقال: “إياك وإخوانَ السوء؛ فإنهم يخونون من رافقَهم، ويُحزِنون من صادقَهم، وقُربُهم أعدَى من الجرَب، ورفضُهم من استِكمال الأدب”.
وقيل: “الجليسُ الصالِح كالسِّراج اللائِح، والجليسُ الطالِح كالجرَب الجائِح”.
وعن أبي موسى الأشعريِّ – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «إنما مثلُ الجليس الصالِح وجليس السوء كحامِل المِسك ونافِخ الكِير؛ فحامِلُ المِسك إما أن يُحذِيَك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجِد منه رِيحًا طيبة، ونافِخُ الكِير إما أن يُحرِق ثيابَك، وإما أن تجِد منه ريحًا مُنتِنة»؛ متفق عليه.
فزايِل أهلَ الرِّيَب، وانأَ عن أهل الفسوق، وصارِم أهل الفجور، وأعرِض عن أهل السَّفَه والتفريط؛ فكم جلبَت خِلطتُهم من نقمة، ورفعَت من نعمة، وأحلَّت من رزِيَّة، وأوقعَت في بليَّة، وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا [النساء: 38].
ومن يكُن الغرابُ به دليلاً يمُرُّ به على جِيَفِ الكلابِ
وطلبَ رجلٌ من أعمَى أن يقودَه، فقال له:
أعمَى يقودُ بصيرًا لا أبا لكُمُ****قد ضلَّ من كانت العُميان تهدِيه
ومن قادَه أهلُ الزَّيغ والفِسق والعمَى عضَّ على يديه تحسُّرًا وتأسُّفًا وتندُّمًا، وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا [الفرقان: 27- 29].
فيا فوزَ من وعَى، ويا سعادة من إلى ربِّه سعَى!
اتقوا الله وراقِبُوه، وأطيعُوه ولا تعصُوه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70، 71].
نِعم الذخيرة والحُلَّة عقيلة الصُّحبة والخُلَّة.
لعمرُك ما مالُ الفتى بذخيرةٍ***ولكنَّ إخوانَ الثقاتِ الذخائِرُ
قيل لابن السمَّاك: أيُّ الإخوان أحقُّ ببقاء المودَّة؟ قال: “الوافِرُ دينُه، الوافِي عقلُه، الذي لا يملَّك على القُرب، ولا ينساكَ على البُعد، إن دنوتَ منه أدناك، وإن بعُدتَ عنه راعاك، وإن استعضضتَه عضَضَك، وإن احتجتَ إليه رفدَك”.
وقال علقمةُ بن لَبيدٍ في وصيَّته لابنه: “يا بُنيَّ! إن نزعَتك إلى صُحبة الرجال حاجة، فاصحَب من إذا صحِبتَه زانَك، وإن خدمتَه صانَك، وإن أصابَتك خصاصةٌ أعانَك، وإن رأى منك حسنةً عدَّها، وإن بدَت منك ثُلمةٌ سدَّها”.
وخيرُ الجُلساء والأخلاَّء: من تُذكِّرُ بالله رؤيتُه، وتنفعُ في الحياة حكمتُه، وتُعين على الطاعةِ نصيحتُه وسيرتُه، وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف: 28].
وتذكَّروا قولَ المولى العظيم في كتابه المُبين: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف: 67].
وصلُّوا وسلِّموا على أحمدَ الهادي شفيعِ الورَى طُرًّا؛ فمن صلَّى عليه صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا.
للخلقِ أُرسِلَ رحمةً ورحيمًا *** صلُّوا عليه وسلِّموا تسليمًا
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائِه الأربعة، أصحاب السنة المُتَّبعة، وعن سائر آلِه وصحبِه أجمعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وجُودِك وإحسانِك يا أرحم الراحمين.
............