إعلم أيها المريد
واعلم أيها الولي
بحث سيدي أبو الحسن الشاذلي طويلاً، وسافر إلى بلاد بعيدة وقد كان ولياً بالفعل ومن أهل الكشف، بحثاً عن القطب الفرد الغوث، لأنه الوحيد الذي يمكنه أن يكمل له الطريق، أي يكون شيخ الفتح الأكبر بالنسبة له.
سافر من المغرب حتى وصل العراق بحثاً عن شيخه، حتى دله الشيخ الواسطي وقال له: أنت تبحث عن القطب، والقطب ببلدك.
فرجع إلى المغرب وبحث عنه فعرف انه يعيش في مغارة في جبل، وصل عند أسفل الجبل ليلا فانتظر أدباً حتى الصباح ليدخل عليه.
بدأ يصعد الجبل إليه فأطل الشيخ من باب المغارة وقال له:
إنزل فاغتسل.
فنزل واغتسل جيداً، ثم بدأ في الصعود فأطل عليه الشيخ مرة أخرى وكرر له نفس الأمر، فنزل واغتسل.
ثم بدأ في الصعود للمرة الثالثة فتكرر نفس الأمر.
فقال سيدي أبو الحسن: ففهمت أنه يطلب أن أغتسل من كل علم وحال عندي قبل أن أدخل عليه.
فاعلم أيها المريد، واعلم أيها الولي، أن كل ما أنت فيه من علم أو حال من قبل الدخول على من يكمل لك الطريق من الباطل، ومن الدنيا، وأن كشفك وما تعرفه وتكاشف غيرك به إن هو إلا حلوى للأطفال في الطريق تشجيعاً لهم، وليس من الطريق. هو من تشجيع الله لك في السلوك في مرحلة العبودية، ولكن أين أنت من العبدية؟؟؟!!!!!!!
كل هذا من السوى
وكل هذا من طلب الدنيا التي تطلبها النفس فتغلفها بصورة تدلس بها عليك.
عبر سيدي أحمد بن عطاء الله السكندري عن ذلك في واحدة من حكمه المشهورة والتي يتوهم الكثيرون أنها موجهة للمريد في بدايات الطريق فقط، ولكنها في حقيقتها موجهة لكل من في الطريق حتى يدخل في مقامات العبدية المحمدية، فقال:
"فرغ قلبك من الأغيار، يملأه الحق تعالى بالأنوار".
وهي تعبير عن مفهوم لقوله تعالى (إلا من أتى الله بقلب سليم)؛ أي سلم من كل ما سوى الله.
أيها المريد!
هل يمكنك الكتابة في صفحة مكتوب فيها من قبل بدون حدوث خلط بين المكتوب فيها حديثاً والمكتوب قديماً؟!
حين يكون عندك كوب مليء بالماء، هل يمكنك أن تملأه باللبن؟!
كذلك قلبك، لا بد وأن تجعله صفحة بيضاء ليكتب فيه شيخك المربي، المأذون من الله ورسوله بالتربية.
إياك أن تقول: لي كذا وكذا في الطريق ولم أصل بعد، شيخي هذا لا يريد أن يختصر لي مدة الطريق.
إن قلت هذا فاستغفر الله وتب إليه فوراً؛ فلقد أشركت شركاً خفياً، حيث توهمت أن الشيخ مثله مثل كل المخلوقين، يملك لنفسه أو لغيره ضراً أو نفعاً، فهو مثل المدرس الخصوصي في العلم، يوجهك لكي تحسن الإجابة على أسئلة امتحان الحياة الدنيا التي يوردها الله تعالى على كل منا في كل لحظة، لكنه لا يجيب الأسئلة نيابة عنك في لجنة الامتحان، بل أنت من يجيب صواباً أو خطأً، فالأمر راجع إليك أنت لا إلى شيخك، هل استمعت واستذكرت ما علمك ونصحك به جيداً أم لا؟
من يربينا ويختبرنا على وجه الحقيقة ليس الشيخ المربي، ولكنه رب العالمين، فمن خلال ما يمررنا به ويورده علينا يربينا ويعلمنا وينبهنا ويرعانا، وما الشيخ إلا مثل المدرس الخصوصي الذي يساعدك على فهم الاختبار، ويدلك على حسن الإجابة.
إياك أيضاً ألا تضع نصب عينيك أن شيخك، بغض النظر عن مقامه هو ممثل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في تربيتك، وهو بالنسبة لك أنت وحدك كأنه القطب الفرد الغوث في الوقت. إياك أن تقارنه بشيخ آخر، وإياك أن تستمع لنصح شيخ مرب أو ولي آخر حتى وإن كنت تعلم علم اليقين أنه القطب الفرد الغوث في الوقت؛ فشيخك هو الطبيب الذي اختاره الله ليطببك لتصلح له تعالى، والالتفات عنه يخلط عليك ويعوق سرعة وجودة علاجك.
لكن
إياك ثم إياك ثم إياك
أن تسير بين المريدين في الطرق الأخرى تعظم شيخك بما ليس فيه، فهذا كذب وغش وتدليس ومن أمراض النفس؛ فتعظيمك لشيخك بينهم في حقيته ليس إلا لأنك تريد تعظيم نفسك من خلال تعظيمه.
أيها الولي!
ديدننا ما قاله سيد الطائفة الإمام الجنيد وكرره بعده كل الأولياء:
كل كشف يخالف الكتاب والسنة فاضرب به عرض الحائط؛ فلقد ضمن الله لنا الأمان في الكتاب والسنة، ولم يضمنه لنا في الكشف.
كانوا رضي الله عنهم وأرضاهم لا يقبلون الوارد إلا بشاهدي عدل من الكتاب والسنة.
إعلم أن ما ينطبق على المحرمات في ظاهر الشرع ينطبق على مثيلتها عن طريق الكشف، فاغضض من بصرك عما حرم الله، وإياك وتوهم أن حالك حال خضري يجيز لك إسقاط التكليف، أو ارتكاب المحرمات، فتسقط إلى ما لا يعلم إلا الله.
إعلم أن الكشف عبء عليك وليس ميزة لك، وهو اختبار من الله لينظر كيف تفعل به.
إعلم أن القدرة على الكشف هي قدرة موجودة في كل الناس بنسب متفاوتة، وقوة الكشف ليست مقياساً ولا معياراً يقاس به مقامك.
إعلم أن اعتمادك على كشفك في تقييم غيرك أو توجيههم نوع من الاعتماد على الحول والقوة اللتان تنسبهما لنفسك
إعلم أن إخلاصك الضروري في بداية الطريق، قد يتحول إلى عقبة بعد ذلك؛ لأنك ترى لنفسك عملاً وطاعات وحول وقوة.
لكي تتخلص من ذلك، فاعلم وطبق:
لا حول ولا قوة إلا بالله
وما توفيقي إلا بالله
إغتسل كما اغتسل سيدي أبو الحسن الشاذلي ليكتب شيخ الفتح الأكبر في قلبه.
هذا والله تعالى أعلم
........................