..
الفتوة عند أهل الفتوة ..و لايقرؤها إلا فتى :
ـــــــــــــــــــــــ
( حق للنبي صلى الله عليه وآله أن يقول : " أنا الفتى ، ابن الفتى ، أخو الفتى" يشير الى فتوته و فتوة إبراهيم عليه السلام وفتوة علي ابن ابي طالب, ولكل مرتبتها, ومعانيها, فإبراهيم عليه السلام أقدم من ذكر من الفتيان في القرآن, بقوله (فتى يذكرهم), وكانت فتوته انه يذكرهم ولا يبالي حتى اشتهر أمره, ففتوته إيثار وشجاعة, وقد كسر أصنامهم, ولو تأملت كم بلغ من الفتوة حين فعلها لتعجبت من أمره, فانك تراها أصنام فلا تقدر خطر ما فعل, ولكنهم لا يرون الا انها آلهتهم, فان الناس اعتقدوا في الله اعتقادات شتى هي أصنام عبدوها من دون الله, فكانوا يشكلون معبودهم كل يوم بشكل من العقائد, وهو قوله تعالى (أتعبدون ما تنحتون) لا يقصد بذلك لمن نحت الصنم بيده فحسب, بل لكل من اقتصر في معبوده على نظره وتصوراته وأوهامه, ولا تظنن ان الاصنام ليس لها أثر فيهم وفي الموجودات, فانهم كانوا يصنعون بها الغرائب, ويفعلون الأعاجيب, ليس بفعل الصنم, هيهات فانه ميت لا حياة له بالمرة, ولكن من اعتقد بحجر كفاه, فاعتقادهم جعلهم يفعلون ما يفعلون, وهم ينسبون ذلك للصنم, فجاء حكم الفتوة في إبراهيم, فظهر بالقوة على تكسيرها, والقوة والقدرة من معاني الفتوة, وقول ابراهيم انما فعله كبيرهم, لم يكن يقصد في نفسه الا الله, لانه هو الفاعل, و أشار الى ذلك الصنم الكبير الذي هم يعبدونه ويسمونه الها اراد النجاة منهم بنسبة الفعل اليه, لا لنفسه, والكذب هنا في الاشارة, وليس في نفس الأمر, لانه ما قصد في نفسه الا أمرا هو الصدق بعينه, ويبقى ان تركه للصنم الكبير من دون ان يكسره ونسبة الفعل اليه ليس نقصا في الفتوة, ولكنه يشير الى مرتبته عليه السلام , الا ترى الفتى المحمدي قد كسر الأصنام جميعا في الفتح, فخذها اليك يا حبيبي من معاني الفتوة, فانه ليس الفتى الا من كسر كل الاصنام حتى لا يبقى في كعبة القلب غيرا, ليكون الدين كله لله.
ومن فتوة إبراهيم عليه السلام, لما أسلما وتله للجبين, وسؤال جبرئيل وهو يلقى في النار, هل من حاجة, قال اما اليك فلا, وترك هاجر وابنها في ارض غير ذي زرع عند بيت الله المحرم, لأن النماء والزيادة لا تكون في الحرم, وانما محلها الاحكام, والحديث في تفصيل معاني الفتوة في إبراهيم عليه السلام يطول, ولم يظهر عنه ما ظهر من معاني الفتوة الا بخلته, فان الفتى الإبراهيمي من تخلل المواطن كلها, وقد ذكرنا في هذا المنتدى الحديث عن الخلة الابراهيمية في اكثر من مكان.
واما فتى موسى, المذكور في القرآن, فأهل الله يشيرون به الى معنى الخدمة, فان رئيس القوم خادمهم, وهو معنى يذكره العامة والخاصة, ولكل منهم مقصد, وستأتي هنا حكاية الفتى صاحب السفرة وهي من هذا الباب, والفتى يظهر بكل مظهر, وقاية ومحبة وإيثارا, وأهل الله أشاروا الى هذا المعنى من الفتوة كثيرا في مزبوراتهم, فالفتى من يكون وقاية للحق العزيز الكريم, الا ترى ان العبد يظهر وتنسب له الأفاعيل التي ظاهرها الذم مع انه يعلم انه ليس الظاهر في هذا الوجود الا الله, ولكن الله سبحانه لا يمكن ان تعلم كيفية نسبة الصفات اليه مما يلحق ظاهرها الذم بالمتصف بها, فينسب الفتى ما ظاهره الذم له وما ظاهره المدح والثناء لله, ومثله قول إبراهيم عليه السلام, فاذا مرضت فهو يشفيني, مع ان الله هو الممرض والمشافي, وهكذا اخواتها مما ورد في القرآن على لسان ابرهيم عليه السلام وعلى لسان الخضر في قصة الخضر وموسى عليهما السلام وغير ذلك.
ومن لطائف الفقراء في هذا الطريق, قول الناس عنهم انهم قد تذللوا وانهم يطلبون الصدقات مع ان الفقير يخبرهم بجلية الامر ولكن يستر عليهم معناه وحقيقته, فيقول: (شئ لله), لأنه يعلم انه ليس له من الأمر شئ, وان الله هو الظاهر في كل المظاهر.
فالفتى من ينال جميع المنازل, برؤيته ان الله هو المحتجب عن الخلق في الدنيا, فيحتجبون عن الخلق بحجاب سيدهم, فلا يشهدون في الخلق سوى سيدهم.
فقد أخذت الفتوة هنا معنى الستر والخفاء, من دون ان نغادر معنى الفتى الموسوي, وقد ورد في الفتوة في معنى الستر, قول النبي صلى الله عليه واله لعلي: لو رأيت رجلا على فاحشة , قال أستره, قال: ان رأيته ثانية, قال: أستره, بإزاري وردائي, الى ثلاث مرات, فقال النبي صلى الله عليه وآله: (لا فتى الا علي), وليس هذا نهاية معنى لا فتى الا علي, وانما هذه منزلة من منازلها, فان النداء بفتوة علي بذلك قد سمعه المسلمون من جبرئيل, وفسره كل بمعناه, مع أن فيهم من كان يجمع كل الوجوه, ولكنهم تركوا بيانها فتوة, ومن كتب من أهل الله في مقام الفتوة, ذكر جملة من معانيها كالشجاعة والقوة والسخاء والكرم والإيثار والستر والاخفاء, كل ذلك بما يناسبها من الوجوه, بل ذكروا ان الفتوة لها أصل حتى في حق الحق, وذلك ان الله سبحانه وتعالى يقول, كنت كنزا مخفيا فأحببت ان اعرف, وهو سبحانه انما يعرف بظهوره, وهو ما ظهر في هذا العالم الذي به كمال الظهور, فكانت الفتوة والايثار, في قوله كنت كنزا, لأن الذي يظهر من هذا الكنز انما هو نحن, مع انه سبحانه نسب حب الظهور له, وقد ظهر باسماءه التي تطلب العالم, فلا إله من غير مألوه, ولا رازق من غير مرزوق, وهكذا في كل اسم فكأن تلك الاسماء لا تظهر الا بنا مع انه في ذاته غني عن العالمين, لكنه اراد ان يظهر ما كان مغيبا في كتم العدم, فكان النفس الرحماني, الذي به انبسط هذا الوجود تنفيسا ورحمة, فظهر بحكم اسمائه, بحسب ما تقتضيه أعياننا, فتنزل لنا ونحن عبيده الفقراء من كل وجه, فقبلت ذواتنا نور الوجود فظهر ما ظهر, وصارت الصفات الظاهرة تنسب لنا, مع انه هو الظاهر فيها, فلابد لمن عرف هذا الامر, ان يخرج من حظ نفسه لله, ولا يمن على احد من الخلق, لان ذلك نقص في فتوته, بل يجعل المن كله لله.
ومن أسرار الفتوة ان الفتوة لا تكون الا بإيثار حظ الغير على نفسك, فيرى ما للغير من الصلاح وما يناسبهم وما ينبغي ان يعاملوا به فيعاملهم به, فيعطي كل ذي حق حقه, لا حكم لطبيعة عليه ولا لهوى خاص بل هو مع كل حكم يرى ما يريده الله فيه فيوفيه ما له من الحق, من غير زيادة ولا نقصان, فيكون ثابتا على فتوته, ويكون مع الاوقات, يعطيها استحقاقاتها, وان لزم من ذلك أن ينقم عليه الناس, لأغراضهم, فان موافقة الاغراض جميعها من حيث النظرة النسبية محال, ولكن يوافق الغرض الذاتي الأول, ويستن بسنة العلم, فيكون محمديا, ويكون شأنه مع من يستائون منه لمخالفة أغراضهم المتخيلة, شأن من قال اريد حياته ويريد قتلي, فانه يكون من الشئ هو الشئ يأخذ علمه عنه فيوفيه حياته, فتسري فتوته في كل الاشياء, فليس للفتى اين او متى, فان من كان هنا فبحكم مكانه, واذا كان هناك فبحكم مكان الغير, فمن آثر مواقيت الله على وقت هيكله, كان الهناك في حقه هنا, فهناه هنا مطلق والمتى في حقه متى مطلق لا ينفصم ناسوته عن ملكوته ولا ملكوته عن جبروته, فما ثم موجود الا ويعطيه ما له من الحق, كل ذلك على ميزان العلم, ولا يمكن ان يحكمه هوى أو سبيل دون سبيل, فان الاهواء مندرجة فيه فلا حكم لها عليه, فهذه هي الفتوة, وضابطها ان لا يترك ميزان الشرع في العلم الرسمي, لا ان يفعل ذلك في الظاهر ولا يعتقده في حق نفسه, فان هذا عين من أضله الهوى عن نفسه, لان الحكم المشروع الذي يقيمه لله انما هو اقامة الارادة الذاتية التي يذكرها اهل الله, وان لم يكن كذلك فما وفى حق الفتوة, و كان كالشيطان يضل الناس ثم يقول اني اخاف الله رب العالمين, فيعطيهم الامر الذي يظهر به لهم, ولا يراه في حق نفسه, وهذا هو الخسران المبين, وابليس عليه اللعنه وان كان له حظ من الفتوة على ما ذكره الحلاج, يشير الى ان له علم لا تعرف الناس قدره, لأنه من الموحدين, وقد فاق الملائكة جميعا بتوحيده, ولكن حظه من الفتوة انما هو بحسب ما يكون عليه من العلم, وتوحيده جعله لا يؤمن بالصور, فلم يبال باللعن والطرد في ظنه انه لا يسجد لغير, ولذلك تجرأ على ما تجرأ عليه, ولكن الله ينسيه ما عنده من العلم يوم القيامة, فيرى ان كل ما عرفه ليس الا مقامات الخيال, وانه كان ساجدا للصورة الانسانية الادمية حتى في إبائه, لأنه بمثابة الخيال لها, ولذا نراه يدخل في استعاذتنا في الجهات بقولنا اعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم, وكذا يدخل في استعاذتنا في قراءتنا القران, وهو قوله تعالى فاذا قرات القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم , ولكنه لا مجال لأن يذكره الأفراد , في استعاذتهم, كقول النبي صلى الله عليه وآله: (أعوذ بك منك).
وأما حكاية صاحب السفرة وهي أن شيخا من المشايخ جاءه أضياف فأمر تلميذه أن يأتيه بسفرة الطعام فأبطأ عليه فسأله ما أبطأ بك فقال وجدت النمل على السفرة فلم أر من الفتوة إن أخرجهم فتربصت حتى خرجوا من نفوسهم فقال له الشيخ لقد دققت.
فمعنى الفتوة فيها انه اراد ان يعطي للاشياء استحقاقها كما هي عليه, فتركها لتاخذ مقتضى ظهورها بكماله, وكانت في ما يقتضي صلاحها وطبيعتها, ان تاخذ الحبات من السفرة, ثم تخرج لوحدها, والا قد ترتاع ويسلب عنها الحب, فتركها بما تقتضيه جبلتها وما يجري عليه هذا الظهور, واليه الاشارة بقول علي ابن ابي طالب عليه السلام: (والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على ان اسلب نملة جلب شعيرتها ما فعلت), فانه ان سلبها الشعيرة التي لها, فانه يخالف ما تقتضيه الذات في سننها في هذا الظهور, فالفتى من يقيم كل شعيرة بحسبها ومن يعظم شعائر الله فانها من تقوى القلوب, وهذا تدقيق في الفتوة, بحسب وصف هذا الشيخ, لانه ليس المقصود حال الفتى مع النمل في الحكاية المزبورة, بل هذا كان حال الفتى مع كل شئ يرى استحقاقه في العلم وما يقتضيه طبعه ومزاجه في ظهور الحكم فيسري حكمه اليه, فاين حظ الهوى الخاص لمن يجري حكم كل شئ كما هو عليه, فذلك معنى الفتوة, ومن لم ير هذا المقام من الأكابر, ورأى انه فاته أن يعطي استحقاق الأضياف, وان الأولى مراعاتهم لأن الشارع أمر بتعجيل تقديم الطعام لهم فلو تفتى هذا الخادم وترك السفرة للنمل واستأذن الشيخ وعرفه بالقصة ونظر في تقديم أمر آخر للأضياف كان أولى وأدق في الفتوة الى غير ذلك مما ذكره رضوان الله عليه, فانه ليس يقصد جزئيات المسألة, ولكن نظر الى انه يفوته تحقيق نفسه لاستهلاكه بالاستحقاقات, وغيابه عن ثباته, فكأنه رضوان الله عليه يريد ان يشير الى ان هناك فتوة وراء هذه الفتوة, وهي الفتوة المحمدية, التي لا تكون بمتابعة الاستحقاقات, ولكن ان يكون مع الآن, فهو صاحب الزمان, كما قال الشيخ الاكبر: (الفتى ابن الوقت مخافة المقت لا يتقيد بالزمان كما لا يحصره المكان .... ليس للفتى من الزمان إلا الآن لا يتقيد بما هو عدم بل له الوجود الأدوم زمان الحال لا ينقال لا فتى إلا علي لأنه الوصي والولي)
ثم قال في الفتيان: (لهم التمييز والنقد وهم أهل الحل والعقد لا ناقض لما أبرموه ولا مبرم لما نقضوه ولا مطنب لما قوضوه ولا مقوض لما طنبوه إن أوجزوا أعجزوا وإن أسهبوا أتعبوا إليهم الاستناد وعليهم الاعتماد).
فالفتيان من حازو ا مكارم الاخلاق أجمعها حيث علموا المحال التي يصرفونها فيها كل بما يستحقه, فهم أهل العلم والتدقيق الذي هم فيه انهم يعطون لكل موجود ما له من الحق, وما يناسبه بحسب ما تقتضيه ذاته, ومن قال من الفتيان انا زيت من لا زيت له يعني هذا, فان الاشياء لا زيت لها من انفسها, لو نظرنا اليها من حيث صورها, وانما امدادها من انفسها في العلم, فهو يشير اني انا الدهن الذي تدهن به مصابيحكم في هذا العالم, وان فهم اهل الطريق انه يشير الى الاحوال ووهبها من الشيخ فانه لا يخرج عن ذلك بل هو التوفيق, وهو الموافقة لما في العلم, ومن فهم غير ذلك فليس من الفتوة, بل هي سنة اهل الكرامات, والفتيان يجلون عن ذلك, فانهم اهل الامداد والزيت, بما يريده الله لعباده لا يخرجون بذلك عما هو مرتسم في ذواتهم مما علموه في ذلك العلم الازلي, الثابت الذي لا يكون بمضاهاة لحضرة من الحضرات, بل هو سريان الظهور الذاتي فيهم من الذات التي لا يمكن ان يشار لها بوصف من الاوصاف.
والحمد لله رب العالمين )
ــــــــــــــــ
منقول عن منتدى المودة
ـــــــــــ
اللهم صل على سيدنا محمد
السيد السند
باب الرشَد
حبيب الأحد
صلاة تفوق العدد
وعلى آله وسلم
...............