إنتشار الطريقة بتلمسان
لما أكرم الله سيدي الدكالي وفتح عليه، بعثه فضيلة الشيخ سيدي الحاج محمد الهبري إلى تلمسان للتعليم ونشر الطريقة فكان بالجامع الكبير وكان مجموعة من أعيان تلمسان يحضرون حلقات الدرس ومن بينهم الشيخ سيدي الحاج محمد بلقايد ابن العربي وسيدي بوزيان بوشناق وسيدي العربي تشوار والسيد الحاج محمد العشعاشي والمقدم أوزين والشيخ سيدي محمد بن يلس وغيرهم، فلما لمسوا من الشيخ الدكالي الورع والتقوى وغزارة العلم قاموا بإسكانه وأسسوا ناديا يجتمعون فيه معه بعد صلاة المغرب فلما رأى منهم حسن الإقبال وجودة الاستقبال وعلم منهم الصدق والتطلع إلى الحقيقة أنبأهم بوجود شيخ مأذون له في طريق القوم ذي سر عظيم ووصف لهم مكان وجوده ومقر زاويته، ففوضوا الأمر لسيدي الحاج محمد بلقايد ليقوم بزيارة الشيخ ويستطلع أمره لما يعلمون من جِدِّه ومن موقفه العُمَري في الصدق والحق فاستجاب لهم وذهب في زيارة للشيخ سيدي الحاج محمد الهبري فلما وصل وجده مشغولا ببناء الزاوية وزوجته الكريمة سيدتنا حليمة تناوله مواد البناء بيدها فقام الشيخ بغسل يديه وصافحه قائلا: "مرحبا بالشريف سيدي الحاج محمد".
فقال له "لست بالشريف ولا بالحاج" فـأجابه الشيخ: "بل أنت شريف وحاج لبيت الله" ثم قال له: "إن مما منّ الله به علي أني إذا نظرت الرجل علمت إذا كان شريفا أو حاجا لبيت الله أو حاملا لكتابه"، فكانت تلك أول كرامة له مع شيخه فأخذ عنه العهد مباشرة وكان بذلك أول تلميذ هبري بتلمسان ثم رجع فأخبر أصحابه بذلك وأثنى على لشيخ وشوقهم فيه فما كان منهم إلا أن أخذوا يفدون على الشيخ تباعا ويأخذون عنه العهد، ومنهم الشيخ سيدي محمد بن يلس وكان عالماً له حلقة بالمسجد الأعظم بتلمسان، ومنهم سيدي أحمد أوزين (ابن الزين كما سماه الشيخ) وظل سيدي أحمد أوزين مقدما بتلمسان حتى جاء الإذن إلى شيخنا سيدي محمد بلقايد فكان هو المقدم من قبل الشيخ سيدي محمد الهبري وسيدي أحمد ابن الزين على قيد الحياة.
تعلمـــــه
لقد كانت تلمسان في ذلك العهد أي: خلال العقد الثالث والرابع والخامس من القرن الرابع عشر الهجري تعج بالعلماء في كل فن من فقه وأصول ومصطلح ولغة وكلام وأدب وتاريخ وتميز علماء ذلك العهد رحمهم الله بالتفاني في بذل العلم لمن يطلبه ولم يكن لهم همّ سوى نشر العلم وخدمة الدين مما أتاح الفرصة لشيخنا تغمده الله برحمته فتلقى من أفواه الرجال وأخذ عن كبار العلماء وجهابذة الفقهاء فنهل منهم بشغف وشدة إقبال ومن أشهر من أخذ عنهم العلم هم ساداتنا الشيخ أحمد أبوعروق الأزهري التلمساني والعلامة بالحساين النجار السلاوي والشيخ بن ناصر وكانوا مقيمين جميعا بتلمسان فلما بلغ أشده واستوى عوده تاقت نفسه وازداد شغفه بالعلم مع ما تحصل عليه من معارف في الفقه والأصول والمصطلح وعلوم اللغة فشد الرحال وسافر في رحلات مباركة أمّ خلالها الحواضر من وطنه كمدينة السفيزف وسيدي بلعباس ومعسكر وسعيدة، بل تعداها إلى البلاد العربية شرقا وغرباً والتقى بكبار العلماء والعارفين فناقشهم في العلم وناظرهم في المسائل تعلما وتدقيقاً لا جدلا وادعاءاً مما جعله يحظى بمحبتهم فأجازه الكثير منهم كالشيخ عبد الحي الكتاني والشيخ الحافظ بن صديق الغماري كما أجازه تلميذه في الطريقة العلامة محمد متولي الشعراوي.
أضف إلى ذلك أنه أخذ علم الحديث والمصطلح عن وحيد عصره وزمانه الشيخ العلامة أحمد بن يلس الدمشقي وأخذ عنه السند أيضا واستمر رضي الله عنه يطلب العلم ويحرس عليه ويقضي الليالي الطوال في مطالعة الكتب حتى تبوأ عن جدارة واستحقاق مقعد العلماء العارفين فزكاه غير واحد من العلماء المتأخرين أمثال الشيخ عبد الفتاح أبو غدة والشيخ الإمام البشير أبو يجرة الذي وصفه في إحدى رسائله قائلا:
أحيي بهذا إمام الإسلام ... وشيخ الشريعة صنو الهمام
كما أثبت له تلميذه العلامة محمد متولي الشعراوي الإمامة العامة حيث قال في رائعته التي مـطـلعها: نور القلوب وري روح الوارد ؛ ما نصه:
الله قَصْدك والرّسُول وَسيلَتك ... وخُطـــاك خلْف محمّـد بَلْقائد
سنده في الطريقة
أخذ رضي الله عنه السند في الطريقة عن شيخه وولي نعمته الإمام الهمام والشيخ القدوة سيدي محمد الهبري الشريف الإدريسي قدس الله سره الذي أخذ بدوره عن والده وشيخه سيدي الحاج محمد الهبري العزاوي عن شيخه سيدي قدور الوكيلي الكركري عن سيدي محمد بن عبد القادر الباشا عن سيدي مولاي العربي الدرقاوي عن باقي أقطاب السلسلة رضوان الله عليهم.
وقد حظي شيخنا سيدي محمد بلقايد بمنزلة الرضا لدى شيخه فبشره بالخلافة في عهد مبكر وهو مازال بعد في سن الصبا وكان ذلك قبل أن يدخل الخلوة لكنه ألح في الطلب من شيخه حتى أدخله الخلوة وتحققت فيه فراسة شيخه فكان الوارث بحق وحاز المقام عن جدارة ولكنه ظل متستراً يأبى الظهور حتى انتقل كل أبناء شيخه وحفدته إلى الرفيق الأعلى فصدع رضي الله عنه بالأمر واضطلع بالمهمة وباشر التلقين فأحيا الله على يده وبه الطريقة وبعث دارسها فذاع صيتها وانتشر صداها في مختلف قارات العالم وصارت تلمسان في عهده قبلة
الفقراء ومحط رحال العلماء من مختلف جهات العالم الإسلامي.
وطنيته ودوره في ثورة التحرير
كانت تلمسان في ذلك العهد (الأربعينيات والخمسينيات) مقراً لكبار السياسيين والمناضلين في الحركة الوطنية وكان الشيخ سيدي محمد بلقايد قدس الله سره يناهض الاستعمار ويناصبه العداء لأنه نشأ في أسرة تميزت بأصالتها العربية وتمسكها بتقاليدها الأصيلة حيث كان جد شيخنا يمنع أبناءه وأفراد أسرته من تعلم اللغة الفرنسية أو التحدث بها أو ارتداء الزي الفرنسي فكانت تلك مقاومة بمقاطعة اللسان الفرنسي والزي الفرنسي والمحافظة على اللسان العربي والزي الجزائري وكانت تلك الأسرة ترى أن ذلك يعد مقوماً أساسيا مـن مقـومـات الشخصـية الـوطنيـة فلا ينبغي التخلي عنه، من هنا فإن شيخنا سيدي محمد بلقايد نشأ على كره الاستعمار والذود عن حرمات العروبة والإسلام وإلى ذلك كان يدعو فلما اندلعت ثورة التحرير كان من المنخرطين الأوائل في صفوف جبهة التحرير ومن المجاهدين الأوائل متخذا من الزاوية الهبرية بتلمسان ملجئاً للمجاهدين ولما تفطنت لذلك السلطات الاستعمارية أقدمت على إغلاق الزاوية بعد أن تأكد لديها أن المجاهدين كانوا يأتونها متسترين بزي النازحين من الريف والفارين طلبا للأمن فنقل الشيخ سيدي محمد بلقايد نشاطه النضالي إلى مسجد سيدي ابن مرزوق واتخذه مقرا للتربية الجهادية ومركزا لتخزين السلاح وتكوين الفدائيين والمجاهدين، واستمر هذا شأنه إلى أن من الله على الجزائر بالاستقلال. وقد تفضل فخامة رئيس الجمهورية الجزائرية السيد عبد العزيز بوتفليقة حفظه الله بتقليده بعد انتقاله إلى رحمة الله وسام الأثير عرفانا له بالدور الذي قام به في ثورة التحرير الكبرى.
يتبع ان شاء الله
......................